مشكلة الوفاء للرواية.. بيدرو بارامو أنموذجًا
أظنكم تعرفون القراء الذين لا يفوّتون مشاهدة الأفلام المقتبسة من الروايات، وتحديدًا تلك التي قرؤوها سلفًا، ولا يفوتهم حين يفعلون ذلك أن يمنّوا على.. لا أعلم واقعًا يمنّون على من بمشاهدتهم الأفلام، لكنهم يستبسلون في إظهار أنهم ليس من هذا الفضاء السينمائي، وإنما قادمون من وسط ثقافي أرقى، أسمى، وهو الأدب، إلى هذا الوسط الأدنى، الأرذل، قادمون من الأدب بسمت الأنبياء، ويشعرون بفوقية وهمية تسمح لهم بمساءلة العمل وفق شروطهم.
يشبه الأمر ما يقوم به الكثير من مثقفي الفلَس، العاكفين في محراب الورق، جرّا.. عفوًا.. مجترّي الأفكار العتيقة، حين يقومون بالحديث حول ما لا يحضر عادة في الأوساط الثقافية الكلاسيكية، مثل حديث أحدهم حول كرة القدم، أو التسوق، أو ألعاب الفيديو، نلاحظ أن حديثه لا يكون بشروط ذلك الموضوع، وإنما يأتي هذا المثقف إلى كرة القدم – مثلا – مستحضرًا ميشيل فوكو ورولان بارت أو الاستعانة بمصطلحات ذات حضور في الدراسات الثقافية الأكاديمية مثل "مجتمع الفرجة" في الملاعب، و"سيميائيات الدرجة الثانية" عند المشجعين، و"عقدة أوديب" عند اللاعب الراغب في قهر فريقه السابق ومضاجعة ناديه الأول.
يستخدم هذا المثقف كل ذلك لنقل كرة القدم، الموضوع الشعبوي البسيط، إلى ميدان الثقافة السامية. لا يحضر هذا المثقف إلا بوصفه رافعة ثقافية في هذه الموضوعات، وكذلك عبيد الكتب هؤلاء، يأتون إلى السينما (وهم الذين يؤمنون بانفصال الفنون عن بعضها)، ليرفعوه بتلك الآلة المسماة الأدب، في حين أن الممارسة العضوية في تناول الفنون هو اهتمام الفرد الواحد لعدة فنون في الوقت ذاته.
ولو استعرتُ أسلوب سي أس لويس في تصنيف القراء ومحبين الفن التشكيلي والموسيقى في كتابه "تجربة في النقد"، لأسميتهم المشاهدين غير السينمائيين. ولهؤلاء المشاهدون مشاكل كثيرة.
يقوم هذا المشاهد بعمل المراقب، والمقارنة بين نصين أثناء المشاهدة، وحين يلحظ هذا المشاهد اللاسينمائي اختلافًا وإن بدا صغيرًا بين الرواية والفيلم، تكون مصيبة الأرض قد حلت وكأن السيناريست والمخرج عبثا بنص مقدس، الأدب نص سامٍ – وأحيانًا سامّ – ولا يجب المساس به. ولكن هناك سبب آخر أيضًا يزعجه، يريد هذا المشاهد أن يطابق الفيلم الرواية حذو القذة بالقذة، لا لشيء أبدًا سوى أن ينتهي من مشاهدة الفيلم، ثم يلتفت إليك، ويقول جملته الأثيرة: الرواية أحلى.
لا يطالع هذا المشاهد الفيلم بشروطه، ولا حتى بشروط الأدب، بل بشروط مجتمعات القراءة – من زينها – التي تعيش في فقاعات بون بونية، وتتغذى على أفكار غير منقحة ولا تكتسب مشروعيتها الثقافية من أي فكر أو نقد، بل من خلال كثرة التداول لهذه الأفكار فيما بينهم: لا يجب أن نحاكم الرواية فهي عمل خيالي، العامية للحوارات والفصحى للسرد، روايات الحب تكتب بلغة رومانسية شاعرية، روايات كافكا سوداوية ودوستيفيسكي عميقة نفسية ونجيب محفوظ حلمنتيشية، إلخ.
المعادلة مستحيلة مع هذا القارئ، إما أن يخالف الفيلم الرواية فيسقط الفيلم تلقائيا، أو يطابقه فيكون فيلمًا رديئا لا يقارن بعظمة النص الأدبي.
ولذلك تستفزني فكرة وفاء الرواية للفيلم كما لو ينبغي للفيلم أن يكون كذلك دراميًّا وفنيًّا. إضافة إلى كلمة خيانة هنا والتي تجعل من أي تغيير تتطلبه الدراما أو التجربة البصرية خيانة! وهي كلمة أثقل بكثير مما تتحمله المسألة. أتمنى ألا يدرعم علينا الآن جماعة "خيانة المترجم".
فيلم بيدرو بارامو الأخير من إنتاج نتفلكس مثال ممتاز على وفاء الفيلم للرواية وفاءً تامًّا، الفيلم الذي تنته منه وتقول: الرواية أحلى. تطابق الفيلم والرواية لم يكن فقط على مستوى الحبكة وتوالي الأحداث والشخصيات، بل حتى في لاخطية السرد، والذي يعد مخالف لكثير من تقاليد السرد السينمائي، عند جماعة ورش الكتابة على الأقل. تساءلت كثيرا عما سيفعله المخرج مع هذا العنصر السردي في الرواية فور صدور خبر اقتباسها، لأنها مبعثرة زمنية بشكل حاد جدًّا، وتضيع فيها بؤرة السرد وزاوية القص بشكل دائم، وهذا ما يتناسب وبيئة الرواية وشخوصها وحالة البطل الذهنية والنفسية، إلا أن الفيلم برع بشكل كبير في نقل هذه اللاخطية بصريا، وشاهدنا خطوط زمنية متعددة ومبعثرة دون إرباك.
لن أخوض كثيرًا في مراجعة رواية بيدرو بارامو لأن ذلك قد يسبب مللًا لمن لم يقرأها ولكن سأعرج بشكل بسيط لها فيما يخدم فكرتي في المقال وهي إشكالية وفاء الفيلم للرواية.
"من يشهد على الشاهد" – باول سيلان
"من المستحيل أن نكذب الموتى" – فيرتوتشو
أتذكر عندما قرأت بيدرو بارامو للمرة الأولى، قرأت حينها بالتزامن رواية تريستانو يُحتضر لأنطونيو تابوكي، وكان في مطلعها البيتين السابقين، وكأن النصين بالمصادفة – وربما أذهاننا هي من تخلق الصُدف – يخاطب بعضهما بعضًا. ذلك لأن رواية بيدرو بارامو تحكي قصة مدينة، وما جرى على أهل هذه المدينة من خلال شهودها، القاطنين السابقين لها، والذين هم في عداد الأموات، تهيم أرواحهم في مدينة كومالا التي باتت مدينة مهجورة، مدينة أشباح.. وأرواح. بل حتى الانتقال السريع، الشبحي، بين أصوات السرد جاء مناسبًا لأشباح المكان.
تبدأ الرواية – وكذلك الفيلم – بوالدة خوان بريسيادو، دولوريتا، على فراش الموت وتخبر ابنها بضرورة الذهاب إلى كومالا لكي يطالب والده بتعويض هجره لهم طوال هذه السنوات، فتبدأ رحلة خوان التي لم تكن مكانية فقط، بل زمانية أيضًا عبر الترحال في تاريخ مدينة كومالا وما جرى عليها.
حكاية بيدرو بارامو ومدينة كومالا، اللذان يتشاطران بطولة العمل، تبدآن وتنتهيان بوداعين وجنازتين وفراقين، أحدهما في البداية والثاني في النهاية. كلا هذين الوداعين قاد بيدرو بارامو إلى جنونين. وهنا أتكلم عن فراق بيدرو بارامو إلى حبيبة حياته، سوزانا سان خوان.
كان الفراق الأول بينهما عندما كانا طفلين، نرى الحدث في ذهن بيدرو بارامو داخل الحمام بعد سنوات وهو شاب، نرى كيف يتذكر رحيل سوزانا مع أبيها على عربة تملؤها الصناديق وهو ينظر لهما، صناديق كثيرة تشبه التوابيت، هذه الجنازة المجازية حيث تظهر التوابيت كما لو أنها تشيّع سوزانا، سنراها بشكل مقلوب في نهاية الفيلم عندما تموت، ونرى صندوق أو تابوت واحد يحملها، وحولها الكثير من المشيعين، ولا يفوّت مخرج العمل رودريغو برييتو هذا المقابلة ليقحم لقطة سريعة من التشييع الأول إلى الثاني، وهو الذي عمل سينماتوغرافيًّا ومديرًا للتصوير في أفلام عديدة مثل Killers of the Flower Moon وThe Wolf of Wall Street وThe Irishman.




بعد الفراق الأول، نرى بيدرو بارامو، يخرج من الحمام، ناقم وغير مكترث، وكأنه جن جنونه ليقود ثورته على كومالا ويحكم سيطرته عليها ويمارس كل ما يرغب في ممارسته. نرى حكاية بيدرو بارامو وكومالا بعد ذلك في حقبات زمنية مبعثرة بين بيدرو بارامو الرجل والشاب والمراهق والطفل والعجوز، وأيضًا نرى الزمن الحاضر لخوان بريسيادو في كومالا المهجورة، وينتقل الرواة بين مضيفة خوان، إيدفيخيس وأخريات.
قبل الجنون الثاني لبيدرو بارامو والذي قاده إلى الجلوس أمام قصره دون عمل أي شيء، ومراقبة كومالا تموت أمامه، نرى ما جرى على هذه المدينة ضمن ثيمات الموضوعات الكبرى للإنسان؛ مثل الموت والدين والسياسة والثورة والطبقية، ونرى دينمايات قوى معقدة بين كل هذه العناصر. أذكر هنا أبرزها والتي تخص الأب رينتاريا، الذي تمثلت فيه قلب فكرة أن الدين للفقراء ليصبح الدين للأغنياء، فالفقراء لا يستطيعون دفع ثمن صكوك غفرانهم، بخلاف بيدرو بارامو وبقية الأغنياء الذي لا يمكن للدين أن يستمر دون أموالهم، ولعل ذلك يبرر غياب أرواح المجرمين في أزقة كومالا، وبقاء أرواح الفقراء فقط تهيم فيها، إذ ليس لها مكان في الجنة.
ما يجعل رواية بيدرو بارامو عظيمة، هي تناولها لهذه الموضوعات الكبرى كما لو كانت عمل ملحمي من ألف صفحة، إلا أنها في الواقع لا تتجاوز النسخة العربية منها الـ ١٧٠ صفحة! أي أنها في الواقع نوفيلا، ولكنها تضع قدمًا في كل من مختلف مواضيع الحالة الإنسانية، وجمعتها في شخصيات قليلة، وكثفت حضورها شعوريا وليس فقط موضوعاتيًّا.
لأقولها صراحة – ولأعود أيضًا لما بدأت به المقالة حول الاقتباس – بأني لم أعجب كثيرًا بالفيلم، بل يعود إعجابي بالفيلم لأني مغرم جدا بالرواية، وهنا تكمن مشكلة الوفاء للرواية.
في ظني، ما حدث في فيلم بيدرو بارامو يؤدي بالضرورة إلى هذا المستوى المتوسط غير المبهر، لأن الوسيط الأدبي الكتابي قادر على التكثيف على نحو يختلف تمامًا عن التكثيف البصري. في الرواية، يستطيع الروائي في ٢٠٠ صفحة أن يكثف موضوعات وشخصيات كثيرة دون أن يخل بزمن التلقي، فالقارئ سيقضي ساعات أطول وهو يقرأ، وعليه يتلقى العمل بوتيرة وإيقاع منضبطين أكثر، أبطأ، تناسب التكثيف الكبير للعمل، أما الفيلم وعلى الرغم من طوله (أكثر من ساعتين) إلا أنه وقت غير كاف لتلقي تكثيف عال إلى هذا الحد دون الإخلال بإيقاع التلقي. لو تم اقتباسه في مسلسل (وهو ما أفضله شخصيًا في اقتباس الروايات) لكان بالإمكان ضبط زمن الأحداث بزمن التلقي، أتذكر أن أمبرتو إيكو ذكر هذا الشيء في أحد كتبه، ربما كتاب تأملات في السرد الروائي أو مذكرات روائي ناشئ، وأنا هنا أستعير الفكرة سينمائيا.
لذلك لا ينبغي للفيلم أن يطابق الرواية لأن كثير من عناصر الرواية التي لا يلقي لها المتلقي بالًا – مثل الإيقاع أو الوتيرة – تختل بشكل كبير، وهي عنصر رئيس في التلقي، ولحل هذه المعضلة لابد من إعادة كتابة بعد الأحداث، أو حذفها، أو إضافة شخصيات، أو دمجها، أو اجتزاء ثيمة واحدة، وذلك لضبط زمن الفيلم وتلقيه.
يستحق الفيلم المشاهدة، استمتعت به ليس لأنه عمل سينمائي عظيم، بل تقييمه في الـ IMDB معبرٌ لمستواه، استمتعت به متلبّسًا المشاهد غير السينمائي، استمتعت به وفاءً لحبي لهذه الرواية العظيمة، وعادة لا أستمتع بالأفلام على هذا النحو، ولكن قد يكون ذلك أفضل من أن يعالج الفيلم دراميًّا على نحو كارثي. هي توصية غير سينمائية أوجهها لعشاق الرواية، إذ سيتمكنون من مشاهدة "ترجمة" بصرية مباشرة من الرواية إلى الفيلم.
حرق اللقطة الأخيرة
لاحظوا التطابق التام هنا بين نص الرواية والمشهد الختامي، لا يمكنني وصف هذا الاقتباس إلا بالترجمة الحرفية. لا أنكر إعجابي بصوت انهمار الصخور أثناء سقوط بيدرو بارامو.