وقعتُ على مقالة نُشرت مؤخرًا للبناني إبراهيم العريس منشورة على موقع الشروق، أو أنها وقعت عليّ وعلى دماغي. تناولت المقالة غياب النقد السينمائي في العالم العربي، ومما يُستنبط من ظاهر الكلام أن النقد هنا لا يحضر أبدًا إلا بوصفه حكم قيمة، أي أن هناك نقدًا وهناك "شوية حاجات كده". وهذا يخالف إشارته بألا إهانة في أن توسم بعض الكتابات باللانقدية، وإنما هو توصيفٌ كأن توصَف بعدم إتقانك للصينية، ولا عيب في عدم إتقانها إلا حين تظن أنك متقنها.. يعني بالضبط مثل النقاد الذين يقصدهم.
أحيّي في الأستاذ الفاضل نقده على النقاد، فأنا بتُّ أتعجب كيف يتسق دائمًا وصف المرء نفسه بالناقد وسذاجته، وكأن سذاجته هي ما أوصلته إلى التشبث بهذا الوصف، والمفارقة أن أهم صفة في الناقد هي حدة رؤاه وليس الانغماس في ضبابية الأفكار والمدارس والكلام المجتر والمكرر. وأنا إذ أتفق معه في مساءلة من يطلقون على أنفسهم بشكل مجاني وصف الناقد للاستناد على شرعية بائسة تُخضع صغار العقول، إلا أني أختلف بشكل جذري عما طرحه في نقده عليهم.
يثير استغرابي انغماس بعض النقاد في فكرة ما ويضعونها نقطة الانطلاق؛ القاعدة الرئيسة التي يستند عليها الطرح بأكمله إلا أنها هي محل المساءلة. أود الإشارة إلى ثلاث فقرات وردت في المقالة (لقراءة المقالة كاملة هنا).
يقول العريس في الفقرة السابقة فيما معناه أن الاشتغال السينمائي لدينا كان بطيئًا في الوقت الذي كان نقاد السينما في باريس وروما يؤسسون تيارات نقدية نظرية اجتماعية، ويعرّج في أكثر من مناسبة تلميحًا وتصريحًا على "إيديولوجيّة" الطرح السينمائي العربي في ذلك الوقت. وأنا هنا أتساءل: لماذا ما تقدمه باريس وروما من أطروحات نقدية واجتماعية يعد إسهامًا في تأسيس تيارات نقدية في حين ما يوازيه من طرح هنا لا يعدو سوى إيديولوجيا؟ مع العلم أن مفهوم الإيديولوجيا لديه هنا ليس بواضح ولكني أفترض أنه يقصد حضور الأفكار اليسارية التي راجت وقتها في المنطقة.
يظهر لي أن هنالك مشكلة كبيرة في هذا الكلام، إذ يأتي العريس بمسطرة صاغها هو سلفًا ويريد أن يقيس عليها إنتاج الثقافات الأخرى، وما يخالف تلك المسطرة يكون في عداد الإنتاج غير المعرفي، أي أن مسطرته هي جوهر الإنتاج المعرفي وليس وليدة سياقات ثقافية معرفية وتاريخية. من الطبيعي أن يكون الطرح لدى العرب في ذلك وقت "إيديولوجيًّا" كما يسميه هو، فذلك هو السياق الثقافي العضوي للمنطقة، فنحن نتحدث عمن تسحقهم السياسات المعاصرة في بلدانهم تحت وطأة الفقر والفساد وغيرها، وعليه يكون حديثهم ونقاشهم أصيلًا نابعًا من صميم تجاربهم الإنسانية، فكما حضرت الأفكار اليسارية في أفكارهم ورؤاهم كحلول لمشاكلهم الحياتية ستحضر بكل تأكيد في الآداب والفنون والنقد، وهذا ما يتسق مع تناولهم للسينما التي تسع مثل هذا الطرح دونما إشكال على الإطلاق!
بل اختزال وصف الإيديولوجيا على الفكر اليساري ومنتجاته هو بالضبط نتاج بيئة العريس نفسه في لبنان إذ في حينها ساد هذا التيار وأفكاره، إلا أن العريس يرى أن الإيديولوجيا تساوي الماركسية ولينين والرفاق، أما الفردانية والسوق الحر وخصخصة كل شيء والتسليع وإلغاء الصالح العام هي ليست إيديولوجيات لأنها تعود إلى الغرب “الناجح” ولذلك هي معرفة أصيلة. هذا دون حتى أن نذكر “إيديولوجيات” إشكالية أكبر كحقوق المثليين ودراسات الهامش وكل ما يوسم اليوم باليسار الراديكالي في تلك الثقافات الغربية.
يرى العريس في اتساق العرب وما يكتبون من قضايا مشكلة كبيرة، لأنهم لا يكتبون مثل "الفرنساوية"، أليس من الغريب أن تطلب من ابن القاهرة وبيروت ودمشق وغيرهم أن يتكلموا كالفرنسيين؟ الفرنسي يكتب ويناقش وفق ظروفه هو، فلماذا يكون هذا الحق أصيلًا عنده وليس كذلك عند غيره؟ ما يسميه الطرح الإيديولوجي ليس مقابلًا للطرح الجمالي أو أي طرح آخر يريد أن يضعه في ثنائية معه، الموضوع السياسي واليساري والثقافي والاجتماعي وأي موضوع آخر حضوره يجب أن يكون أصيلًا نابعًا من السؤال المؤرق لصانع الفيلم، الفنان، الذي يتماهي من خلال الفيلم مع ذاته، لا أن يتماهي مع صورة لا تعنيه تجعله أبعد عن ذاته.
وهناك نقطة أخرى، تأسيس التيارات هو فعل لاحق على الاشتغال الثقافي وليس سابق له، لا يقول الفرد أو مجموعة الأفراد أننا سنؤسس تيارًا كذا وكذا، وإن فعلوا فإن صفة التيار والمدرسة تتشكل لاحقًا بسبب ما أنتجوه وما أثّروا به على الآخرين، ملامح التيار والمدرسة لا ترتسم إلا مع وجود المنتجات وليست سابقة له.
لنتابع الفقرة التالية في المقال.
المشارقة المساكين الذين لم يدرسوا في المعهد البريطاني – ولي عودة إلى مفردة "مشارقة" – والذي لا أعلم لمَ تعريفه للفن والسينما ملزِم أساسًا. كل ما يقوله العريس في المقالة هو إما من فرنسا أو إيطاليا أو أمريكا أو بريطانيا، وجميع استشهاداته لا تحمل خصوصية حصرية لما يقوموا به هؤلاء، "فرسم نظرتهم للحياة عبر الصورة والصوت والتوليف الحر والتشكيل الجمالي وسيكولوجيا الأفراد والجماعات" إلخ إلخ ليست حصرًا على أحد بل من السهل الزعم بأن جميع الأفلام في مشارق الأرض ومغاربها ترتكز على ذات القيم، ولكن اقتصار استشهادات العريس على منتجات الثقافة لدول المركزية الغربية في كل ما يذكر يشير بوجود حكم قبْلي على الأفكار والثقافات.
هل يعتقد العريس أن الغرب (الـ West بدبليو كبيرة) محصن من الإيديولوجيا؟ لا أجده يضع الاثنين في جملة واحدة، بل أراه يضعها بوصفها نقيضًا لها، وهي ممارسة كلاسيكية في الخطابات الاستعمارية؛ هم ينتجون السينما ونحن ننتج الإيديولوجيا، هم ينتجون الفلسفة ونحن ننتج الفلسفة الإثنية، هم ينتجون الأنثروبولوجيا ونحن ننتج الفلكلور، هم ينتجون العلم ونحن ننتج الكلتشر، وهكذا في صراع قوى بين فرض المصطلحات التي تنتهي بفرض حكم قيمة مسبق على ما ننتج وينتج "الآخر".
ننتقل الآن إلى ثنائية أخرى من بين الثنائيات الكثيرة التي يفكر من خلالها العريس، وهذه المرة من خلال المفردة التي أشرت إليها سابقًا، المشارقة والمغاربة في العالم العربي. يظهر من خلال المقالة أن هذه الثنائية ارتسمت في ذهن العريس لأنها تتماشى مع كل ما ذكر سلفًا من تقسيم يأخذ من حكم القيمة القبْلي فارزًا ومغربلًا للأفكار. هنا يكون القرب والبعد عن "مركز" المعرفة مصدر قوة لك في إنتاجها. وهذا ما امتاز به المغاربة الذين يتقنون الفرنسية (بفضل الاستعمار طبعًا)، وسمح لهم بالوصول إلى المعرفة من جذورها وفهمها وتشربها. ولكن يا للأسف.. فاللغة العربية عاجزة عن التفكير في موضوعاتنا الثقافية الخاصة كما الفرنسية، وهذا المنتج الثقافي الهجين لا يلقى رواجًا عند الفرنسيين "لأنهم لا يحتاجونه"، من أنت أصلًا لتقدم أي مفيد لهم، وغير مفيد للعرب لأنهم لا يفهمونه، فهم دبش.
في حين أن هذا الهجين يلقى مصرعه المستحق لأنه غير عضوي، ومن الطبيعي جدًّا أن يحتقره الفرنسي والعربي أيضًا لأسباب مختلفة. يظن العريس أن مشكلة النقد لدينا هي أنها لا تشبه المعيار الذي رسمه سلفًا، المسطرة التي جاءنا بها فاتحًا، في حين أنه يتوجب عليه كسر هذه المسطرة التي لا تقيس سوى انعزالك الذاتي عما يتوجب عليك الاهتمام به بشكل أصيل، وتناوله فنيًّا وسينمائيًّا بشكل إبداعي يعبر عن رؤيتك سواء كانت اجتماعية أو غير ذلك.
كم هو مبهر اتساق أفكار العريس في أن تكون صيغة نموذجية نستطيع بكل سهولة أن نشير إليها ونقول هذا هو الإنتاج المعرفي الاستعماري الذي لا يولد بشكل عضوي بين أفراد المجتمع ومثقفيه، ويستخدم المصطلحات بوصفها حلبة لفن الممكن ودينميكيات القوى، لتنزع الشرعية المعرفية من خطاب كي تعطيه إلى آخر.
لا أحب المبالغات وخطاب الترهيب، ولا أقول بأن ذلك خطيييير! ولكني أقول بأن هذه الأفكار ساذجة، وغير جديرة بالحضور في مشهدنا أصلًا، فضلًا عن الاحتفاء بها but what do I know.. فأنا لست خريج المعهد البريطاني، والأسوأ من ذلك هو جور الزمان علي.. فأنا لم أولد فرنسيًّا.