هناك جيل من القراء السعوديين تستطيع أن تحددهم وفق معيارين، أي لو كان هناك قاعدة بيانات تحوي جميع القراء في السعودية، واستخدمت فلتر البحث، فلن تحتاج إلا إلى معلومتين لتحصر هذه المجموعة، الأولى تخص السن، والأخرى تخص تواجد هذا القارئ في فترة سابقة في منتدى جسد الثقافة (منتدى ثقافي نشط جدًّا قبل عشرين سنة)، ولعل المعيار الأخير كافٍ لوحده.
لدى الكثير من هؤلاء القراء مفهوم للرواية الجيدة، تمامًا مثلما أمتلك أنا وحسينزم مفهومين مغايرين. يكمن الإشكال ربما في أني وحسينزم متصالحين مع ذاتية معاييرنا، في حين أن بعض القراء والنقاد بمن فيهم أبناء المنتدى السابق يتعاملون مع مفهومهم بإطلاق. قد يحاول البعض منهم صياغة منهجية لهذا المفهوم والبعض الآخر يكتفي ببعض الملامح التي يطمئن لها، ولست بصدد إثبات صحة هذا أو ذاك، وإنما يهمني أن يعي هؤلاء القراء والكتاب أنهم ليسوا متسامين على التاريخ، وليسوا موضوعيين، مثلي تمامًا وحسينزم وبقية القراء، والتصرف الواعي يتطلب إدراكنا للظروف التي شكلت ذائقتنا ووعينا، كي يكون الحوار ممكنًا مع بعضنا البعض.
وهنا أريد أن أجادل بعض ما يخص معايير الرواية الجيدة كما يراها هؤلاء، وذلك عبر تناول الرواية الأولى والجديدة للكاتب والقاص عبدالله ناصر.
ولكن لابد من مقدمة في البداية.
هناك مفهوم رئيس في الفنون السردية يُصطلح عليه بـ “العالم السردي” أو الحكائي، Diegesis، ويعرّب أحيانًا إلى الدييجيسيس، وهو الخط الفاصل بين حدود العمل السردي وما هو خارجه، وهو الذي يضبط مواقع عناصر العمل السردي ويسهّل ضبط العلاقة بين المتلقي والنص. وإذا ما كسر صانع العمل خطوط العالم السردي على نحو يصعب تبريره من قبل المتلقي، يكون العمل مضطربًا، وإشارة واضحة له بأن ثمة خلل مفاهيمي كبير فيه.
هناك عالم حكائي تدور فيه الأحداث، وتتحرك فيه الشخصيات، وهناك فضاء خارجه وهو “خارج السرد” أو سأسميه الخارج السردي، Extradiegetic، هذا الأخير أكثر وضوحًا في السينما والأفلام، فهو ما لا تراه ولا تسمعه الشخصيات، كالموسيقى التصويرية مثلًا، هي خارجة عن الديجيسيس للفيلم. أما في الرواية فهناك أمثلة توضح هذا الخارج السردي، مثل ما يفعله ميلان كونديرا في رواياته، حيث يقوم بشكل مخاتل بالتعليق على بعض شخصيات أو أحداث العمل الخيالية ولكن بصوت كونديرا نفسه، أو أن يخوض في مقال فلسفي طويل حول الكيتش، وهذا الانتقال هو انتقال من صوت الراوي – والذي وإن كان خارج العالم السردي لأنه راوي عليم إلا أنه يظل خياليًّا – إلى صوت المؤلف الفعلي والحقيقي، كونديرا نفسه. وهذا ما يعرف بالـ Authorial Voice أو صوت المؤلف.
(مثال ممتاز 👇🏻 من السينما على المخرج الواعي تمامًا لعالمه السردي وخارجه، ويعرف كيف يكسر القاعدة فيما يتماشى وحبكة الفيلم وجميع عناصره الأخرى).
وهناك أيضًا ما يفعله كيرت ڤونيغت في بعض رواياته من إقحام نفسه كشخصية لها صوتها وعلاقتها بالشخصيات الأخرى (كذلك قام ميلان كونديرا بالأمر ذاته في رواية “الخلود”، وهنالك أيضًا ميغيل دي أونامونو في روايته “ضباب”). لا يمتلك القارئ قبال ذلك إلا إدراك انبناء عالم الرواية برمته على حيل وتقنيات سردية تنجح أو تفشل بناء على دورها في إحداث أثر معين.
ويعي كلًّا من كونديرا وڤونيغت وأونامونو ما يقومون به فعلًا، حيث يهدمون تراتبية المؤلف ¬ السارد ¬ العالم السردي، إلى المؤلف = السارد = العالم السردي، بل ويفككون هذا العالم السردي أحيانًا من خلال التعبير عنه بالصوت التأملي أو الفلسفي أو الناقد.
طيب وش تبغى أنت الحين من كل هالهدرة؟
أولًا، دائمًا ما أجد نفسي مضطرًا للحديث حول موضوعات التقنية والكتابة الروائية أو السينمائية في كل مرة أتناول عملًا محليًّا، وأنا أكره ذلك إذ يعيدني إلى مرحلة سابقة في حياتي حيث قرأت الكثير فيما يخص المدونات النقدية والمدارس والتقنيات، وذلك يجعل ما أكتبه مشابه لكتابات الأكاديميين التي لا تفيد أحدًا في الغالب، لكني مضطر إلى ذلك إذ لا أستطيع تناول العمل والقفز على ما أراه خللًا جذريًّا، وذلك أمر أقوم به كثيرًا عندما أكون مهتمًّا بالموضوع والخطاب داخل العمل أكثر من التقنية، ولكن يتعذر ذلك أحيانًا إذا ما كان الخلل الفني والتقني مرتبط بعصب العمل نفسه.
أما ثانيًا، توضيح النقطة السابقة في المقدمة أمر ضروري لتناول عمل مثل “هذه ليست رصاصة”، إذا يطالعنا منذ العتبة ثم الصفحة الأولى – والسطر الثامن – اسم رينيه ماغريت، الفنان البلجيكي، وهنا تحسست مسدسي، وتوقعت حدوث ذلك الانهيار “الدييجيسيسي” في العمل، وكلما تابعت القراءة وجدت أن حضور ماغريت في العمل سيتسبب في خلل في العالم السردي كله. كلما حضر ماغريت، انهار العالم السردي على يد القصف القادم من الخارج السردي.
سأشرح ما أعنيه بعد قليل، ولكن هناك نقطة اعتراض حول فكرة حضور لوحة ماغريت (أو الفن عمومًا) في مثل هذا النوع من الروايات. ذلك النوع من القراء (مثقفي جسد الثقافة والباكين على أطلال الملاحق الثقافية)، هم الذين يستحيل أن يتصالحوا مع فن الرواية الخالي من العناصر الفنية والثقافية في العمل والمعلومات الموسوعاتية المجانية، ولذلك غالب شخصيات أعمالهم مثقفين حتى وإن كانوا “نخلاوية” أو “سمّاچين” أو رعاة إبل، تجدهم يتحدثون عن الشكلانيون الروس وثورة الهيبيز وحضارة الإنكا قبل الاستعمار الإسباني وثلاثيات راي ألين مع ميامي هيت.
بل أن هناك اتساق لهذا الحضور “الثقافي” في رواياتهم، فهو إما يكون مما يندرج عرفًا في وسط المثقفين ذاك تحت الثقافة السامية؛ مثل الموسيقى الكلاسيكية وفيروز ولوحات من الفن التشكيلي والفن الراقي والسينما النوعية الفنية وباريس ولندن ونيويورك، أو العكس تمامًا وهو الإيغال المفتعل للمحلية الصرفة التراثية، وفي كلتا الحالتين يكون قرار الروائي الواعي باستخدام هذه العناصر سابق لكل شيء، ولذلك يأتي مفروضًا على النص، ومتباين عنه بشكل منفر. أعلم أن هذا الرأي فيه الكثير من التعميم إلا أنه ينطبق على الكثير من الروايات السعودية، ولست بصدد جرد موضوعات وأشكال وثيمات الرواية السعودية، وإنما أذكر هذا النوع الذي سوف أحتاجه في هذه “اللامراجعة”.
لنعود الآن إلى متن الرواية مع الأخذ بالحسبان كل ما ذكر حتى الآن.
إذا ما استنطقتُ حدّوتة الرواية، سأقول: تحكي الرواية علاقة شاب بوالده، فياض، حيث يبدأ الابن بوصف والده وما يمتلك من مسدسات، وعلاقة والده بأصدقائه، وأسرته، والحي، حتى نصل إلى ذلك الحدث الرئيس الذي يشكل ما يشبه المنطقة المعتمة في ذاكرة الابن من تاريخ والده، والذي استنبطها الابن من عدة مصادر: أحد أصدقاء أبيه، وبعض الهمهمات من رجال الحارة، سعود ناجي (صديق الأب)، وأطفال الحارة، وبشكل رئيس صك الحكم حيث تُضمّن فيه عادة الأقوال والأحداث. وعبر هذه القصة تتكشف لنا هذه العلاقة بين الابن وأبيه، وثيمات أخرى تخص قيم أهل المنطقة في فترة سابقة.
الحكاية التي أودت بالأب إلى السجن تتعلق برجل يدعي “نعير”، الذي تحرش بأحد أولاد الأسرة، سعدون، وعليه توجه الأب وأحد أقاربه إلى نعير، استدرجاه وأبرحاه ضربًا بالمشعاب، وعندما هب أهل نعير لأخذ الثأر خرج لهم الأب فياض يحمل مسدسًا وأردى والد نعير بخمسة رصاصات كادت أن تودي بحياة هذا الأخير.
تدور أحداث العمل بشكل أساسي في الدمام، مع ذكر لبعض المناطق الأخرى مثل القطيف والرياض والشام، وجميع شخصيات العمل متجذرة ثقافيًّا في المكان (الدمام)، إلا أن عبدالله ناصر، ولسبب ما، قرر أن يجعل من رينيه ماغريت المظلة الجامعة للرواية والقابعة تحت السطح تارة وفوقه تارة أخرى، محولًا لوحاته إلى نص مواز للعمل، وهو ما أربك العمل برمته.
الحكاية وما فيها، باسثتناء ماغريت ولوحاته، قادرة على توليد العديد من المعاني الموضوعاتية والجمالية، وقادرة على تناول الخطابات فيما يخص الشرف والموت والأبوة وغيرها، بل حتى مناقشة أدق التفاصيل ودلالات الأسماء مثل “نــــ عير” وربطه بما قام به، وهذا ما جعل حضور ماغريت في العمل مثل العضو الناتئ والغريب عن الرواية برمتها.
أراد عبدالله أن يجعل روايته تناصًّا Intertextuality مع لوحة “الناجي” لماغريت، ولم ينطلق من الحكاية ذاتها. يُستخدم التناص عادة لغرض إضفاء طبقات متعددة من المعاني للنص، بحيث نستطيع أن نقرأ الحكاية داخل الرواية، وأيضًا نستطيع أن نقرأها بوصفها انعكاس لما تتناص معه (لوحة الناجي)، ونتحصل بذلك على معانِ أخرى، أو شبكة كبرى من المعاني.
وأقول تناصًّا وليس موتيفة لأن اللوحة كانت حاضرة بشكل بارز جدًّا، ونوقشت معانيها، وقورن بينها وبين عناصر النص الروائي، قد تكون معارضة أدبية فنية بين نص ولوحة، ولكن ليست موتيفة، فالموتيفة تكون حاضرة بشكل مجرد، تزامني، وعبر التكرار يتشكل النمط، وبالتالي نستطيع أن نستنبط تباينًا أو اتساقًا بين ظهورين أو شيئين يحدثان بالتلازم وبشكل متكرر، مثل ظهور الخيل يعدو بحرية في مساحة واسعة كلما شعرت الشخصية بالقيود (مسلسل رشاش)، أو ظهور القطعة الكريستالية في يد أحد الشخصيات كلما مارست البطلة الجنس لغرض الوصول إلى مراد معين (فيلم الراقصة والسياسي)، ويستطيع المتلقي بعد ذلك التقاط هذه الموتيفة التي تشير إلى شيء ما في كل ظهور لها.
ولكن كما ذكرت، قرر الروائي سلفًا أن يستخدم هذا التناص ويكتب روايته من خلاله ولم ينطلق من الرواية نفسها، من الحكاية وشخصياتها وثيماتها الخاصة، مما يؤكد الخلل داخل العالم الروائي نفسه الذي لم ينبني ليكون مكتملًا بذاته. وهذا ما عنيته بانهيار العالم السردي. حين يرد ذكر ماغريت ولوحته الناجي والبندقية الدامية، يعاد تأويل جوانب قصة فياض وابنه (السارد) ووالده كما لو أنها انعكاس لعناصر اللوحة أو حياة رسامها. وهنا أتساءل، إذا كان الغرض من التناص هو توليد المعاني، ألم يكن من الأجدى البحث عما يتسق وروح النص وثقافته، أعمال موسيقية يمكن تفهم وجودها وحضورها “التناصي” في العمل؟ هذا يقودني إلى ذلك الإيمان بالثقافة السامية عند بعض القراء والروائيين، وارتباطها دائمًا بالعالمية المستوحاة من ثقافة الرجل الأوروأمريكي ولكن هذا ليس موضوعي.
بل حتى غياب لوحة أو عمل فني من السياق الثقافي التي تنتمي له الحكاية له دلالاته، ويمكن توظيفه أو تضمينه في ثيمات العمل يجعل منه أكثر رصانة وأكثر صدقًا ومنطقية، وبالتالي أكثر تقبلا لدى المتلقي، حيث يشعر القارئ أن هناك تكاملًا موضوعاتيا وثيماتيًا وجماليًا وحتى نقديًا وخطابيًا داخل العمل، وبشكل متسق تمامًا.
الراوي هو الابن، ابن فياض، القابع في متن العالم السردي، ولا تؤسس الرواية لأي خلفية ثقافية أو أكاديمية أو معرفية له تبرر معرفته بالفنون الأوروبية والحركات الفنية فيها، إلا أنه يعلق في أكثر من مناسبة، بل في فصل مطول – بالنسبة إلى حجم الرواية – حول لوحتين من لوحات ماغريت؛ “الناجي” و”مسرات الطبيعة”، ويتناول أسلوب اللوحتين وعناصرهما والحركة السريالية، مما يشير بشكل واضح إلى وجود تناقض سردي Diegetic inconsistency.
يتطلب حل هذا الإشكال تبرير درامي متجذر في العالم السردي يشرح لنا منظور الابن حيال الفن، وكيف تشكل هذا المنظور، ولمَ هو على هذا القدر من الدراية حول الفن التشكيلي الأوروبي. أما غيابه، فيأخذنا إلى الإحساس بوجود صوت آخر قادم من الخارج السردي يتلبس الشخصية، ولا يمكن إنقاذ هذا الاعتلال السردي الكبير عبر المتقابلات بين معاني اللوحة وعناصر النص الروائي مهما كثرت، ولا عنوان الرواية التي يحيل إلى لوحة أخرى من لوحات ماغريت قادر على ذلك ولا أي عتبات أخرى، ولا الرمزيات ولا شيء آخر؛ لأن حضور ماغريت ليس بمفهوم ويصعب تبريره لدى المتلقي كي ينتقل إلى الخطوة التالية وبحْث هذه المتقابلات.
الأمر الآخر، وهو أن عبدالله ناصر لم يقدم لنا ما يوحي بأنه يكسر هذا العالم السردي بشكل مقصود مثلما يفعل كونديرا وڤونيغيت وأونامونو. لو فعل كونديرا في هذا الرواية ما يفعله عادة في رواياته، لقال شيئًا مثل: “لننظر الآن إلى علاقة شخصيتنا الروائية وعلاقتها بأعمال ماغريت، وكيف شكلت قيمًا وتلميحات تربط بين النجاة لحامل البندقية أكثر منها لدى من يقف أمام فوهتها.. إلخ إلخ..”، أي يقوم بشكل جلي بضرب خيالية العمل عبر الخروج من العالم السردي والحديث والتعليق عليه! إلا أن صوت الراوي، بطل العمل، هو الحاضر بشكل كامل مما يجعله غير معقول سرديًّا، ويجعلنا نرجح أنه إسقاط صوتي من المؤلف على لسان البطل وليست حالة ميتا-سردية.
ويتكشّف الاعتلال السردي من زاوية أخرى أيضًا، إذ استخدم البطل في رواية عبدالله ناصر ضمير المتكلم بالجمع، كما حدث حين قال “أسلافنا” أو “أجدادنا” أو حتى عبارة “لكن ما الذي نراه حينما ننظر إلى لوحة الناجي؟”، لكن هذا الاستخدام ليس تدخلًا من المؤلف بمعنى الميتا-سردية بقدر ما هو محاولة لجعله امتدادًا لشخصية السارد/الكاتب ابن فياض، وهذا التغير في اللغة ليس تغيرًا نحويًّا وحسب، بل هو انعكاس على التغير في المنظور، وانتقال من منظور الشخصية (ابن فياض) إلى منظور المؤلف.
نعلم نحن قراء الرواية أن السارد أخذ على عاتقه كتابة النص الذي نقرؤه، سواء حين قال “كما أفعل الآن حين أكتب هذه الفقرة”، أو حين يختار تزويد القراء ببعض المعلومات بناء على توقعه لخلفيتهم المعرفية، ومن منظوره. قد لا يحتاج أهل الشرقية إخبارهم أن ميناء الملك عبد العزيز بالدمام، ولا يحتاج أهل القطيف تزويدهم بالمعلومات حول تاريخهم أو موقع أبو معن الجغرافي. لكن هناك قارئ يحتاجهم. هل يمكن للبطل أن يخرج من عالم السرد ليتكهن بهوية هذا القارئ؟ الجواب المختصر هو لا. لكن عوض سد هذا العجز بخلق حالة ميتا سردية كما يقوم كونديرا، يقوم المؤلف بإسقاط صوته على البطل، فنرى تغيرًا في المنظور من البطل الذي لا يُفترض أن يكون مهتمًّا بشرح شيء لقارئ متوقع إلى منظور المؤلف الذي يخاطب قارئًا محتملًا.
ما ذكرته في البداية حول علاقة بعض المثقفين السعوديين بفن الرواية (سبق أن تناولت أمرًا مشابهًا في مقالة سابقة)، يجعلهم عاجزين عن كتابة عملٍ بلا مراجع ثقافية وأسماء أعلام لمفكرين وتحليل للوحات أو تعليق على موسيقى ما، لأن ذلك يجعل من الرواية عمل ليس ذا قيمة معرفية ولا جمالية، ويحوّلها بشكل أوتوماتيكي إلى ثرثرة، نص غير سامي، وينعكس هذا على نصوصهم من خلال وجود الشخصيات المثقفة حيث تعمل مثل قنوات نقل المعرفة الثقافية الموساعاتية، مثل الدمى التي تُحشى المعرفة في أفواهها.
هذا ما نراه، وإن عرَضًا، في شخصية الأب. يذكر ابنه في أحد الفصول أنه لم ير في دفاتر السجن لأبيه أي قصيدة للمتنبي بالرغم من حب والده له، أي أن الأب أيضًا مثقف، يحب الشعر، مما يعزز فكرة سابقة لدي حيال المثقف السعودي الذي لا يستطيع تناول موضوعات الحياة خارج اللغة والخطاب المكرس من قبل فئة تواطأ الجميع على وسمها بالـ “مثقفين”.
أستطيع تقبل حضور الشعر النبطي لدى الشخصيات لأنه مما يندرج ضمن الثقافة الشعبية كما نرى عند الجد، عبد العزيز، الذي لطالما استوقفه نقر العصافير للرطَب “وذكّره بقصيدة راشد الخلاوي الذي يقول فيها إن قبلة محبوبته ألذ من الرطب الذي تنقره الطيور”. ويتبع بطل الرواية في الفقرة التالية متحدثًا عن جده “وكان جدي يتذوق الشعر ... ويذوقني من قصائد الخلاوي وابن لعبون وابن سبيّل”.
لا نرى الاتساق في بطل الرواية كما هو عند الجد عبد العزيز. نقرأ كلام البطل عن لوحتي ماغريت، يقول: “حينما قرأت كتاب البروفيسور أليكس دانشف عن حياة ماغريت”، وفي الصفحة التالية يقول: “ثم إن من يتوجه للقانون مطالبًا بإنصافه من إهانة تعرض لها شرفه يفقد بذلك شرفه على حد قول مونتيني“، وهي لغة لا تنتمي على الإطلاق إلى العالم السردي والشخصية داخل الرواية، وفي الوقت نفسه تتسق مع فكرة ضرورة حضور المثقف في الرواية.
بل حتى شخصية سعدون التي تقف في خلفية الأحداث، عندما ذكر البطل ما يعرفه عنه وما رآه على صفحته الشخصية على فيسبوك، رأى أنه قد تزوج من أمريكية وهو الآن يعمل مهندسًا في شركة شيفرون، ولم يرى إلا صورًا لهما في مطاعم أو متاحف!
فيما يخص منطقية الأحداث، فإن بعضها لم يكن مقنعًا وبعضها لم يكن صحيحًا على الإطلاق، ويُظهر سذاجة لدى بعض الشخصيات يصعب عليّ تمريرها، مثل خوف الأب فياض من تنفيذ القصاص به بعد يوم من ارتكاب جريمته واعتقاله وإيداعه السجن، وبقائه متوترًا ينتظر التنفيذ، بل ويخبره أحد المساجين “ربما تود أن تتوضأ وتصلي”. ألا يعرف أي من المساجين أن الأمر يتطلب إجراءات طويلة من تحقيق وجلسات محكَمة وغيرها؟ هل هم على هذا القدر من السذاجة؟
الشيء الآخر، لماذا كُتبت الحوارات باللغة الفصحى؟ ليس هناك من إشكال فني في حد ذاته، ولكن هناك تفاوت بين مستوى اللغة ومستوى الحدث والمكان والثقافة والبيئة، هذا من جانب ومن جانب آخر كان هناك حضور بسيط جدًّا للغة المحكية يصعب منطقته، مثل ما قالته مزنة والدة سعدون مخاطبة ابنها، “قم يا ولدي جعلي ما ابكي زولك شف أخوك زيد”.
أخشى أن يكون مثل هذا الحضور كما في الأشعار النبطية ليس إلا “منكهات” ثقافية لإعطاء النص صبغة واقعية، أو ربما لموازنة ما في العمل من عناصر ثقافية غربية بالعناصر المحلية، وقد حضرت قليلًا ولكن دائمًا على لسان العجائز، مثل ما ورد على لسان الابن مستذكرًا ما قد يقوله والده فياض لو كان حيًّا “يا سرعها على الحي” و “يقطعك يا دنيا سريع دورها”.
أما أخيرًا، فالتشبيهات.
نعلم أن للتشبيهات والصور البلاغية توظيفات متعددة، ولا تقتصر فقط على تحويل المشاعر إلى صور، أو ربط شيئين عبر إضفاء صفة إلى أخرى، بل تحمل التشبيهات أحيانًا بنية رمزية، مثل أن يشبّه البطل المدينة بالرئة المثقوبة وثم لاحقًا في آخر الرواية يشبهها بالرئة التي تم رقعها.. مثلًا، أي أن التشبيه يحضر بأشكال متكررة مشكلًا بنية فرعية أو بنية داخلية.
أيضًا تكشف التشبيهات رؤية الشخصية للعالم، وخلفيتها، فالشخصية التي تتعلق جميع تشبيهاتها بتخصص معين، تعطي انطباعًا لدى المتلقي بالرابط بين الشخصية وتخصصها أو إحدى اهتماماتها.
لكن عندما نرى تشبيهات البطل في الرواية، وهي كثيرة جدًّا، وتلك إحدى سمات روايات ذلك الجيل، وهي الإسراف في استخدام الصور والتشبيهات، وأحيانًا دون استثارة لأي إيحاء عاطفي أو صوري. يتحول التشبيه لوسيلة إحالة إلى عبقرية المؤلف في التقاط الروابط أو خلقها. يقول حسينزم إنه أحصى (٤٩) تشبيهًا مباشرًا من هذا النوع في صفحات الرواية الـ (١٦٠)، أي تشبيهًا واحدًا كل ثلاث صفحات تقريبًا.
نجد في الرواية تشبيهات دينية مثل “ولما رأى أبي أيدينا لا تصل إليه مثل رسل إبراهيم تناول لقمة ثم قال..”، أو “زيد ونايف يقفان عليه مثل ملائكة الموت”، أو “تصوم يومًا وتفطر يومًا مثل النبي داوود”. إلى حد ما، يمكن قبول هذه التشبيهات لأنها تظل ضمن الفضاء الثقافي للشخصيات. لكن ما يهمني هي تلك التشبيهات التي تتسق مع اعتلال الفضاء السردي داخل الرواية واقتحام المؤلف للعمل؛ مثل “لخطو أمي حفيفٌ يشبه حفيف الشجر مذ صار نصفها الأيسر يجر نصفها الأيمن جرّ الحصان لعربة تعرقلها الأحجار“، حصان؟ وعربة؟ هذي صورة من كرتون ساندي بل في إحدى قرى اسكتلندا وليست لشاب من حي عبدالله فؤاد في الدمام.
ولا أستطيع إقناع نفسي بأن التشبيهات قد تكون وليدة تجارب رأيناها على التلفاز، لا أتخيل نفسي أشبّه شيئًا بعمارات شانغهاي الكثيرة والباسقة لأني رأيتها في مقاطع فيديو أو على التلفاز، يتطلب التشبيه تجربة قريبة لأنها في العادة صور وإيحاءات تحمل مشاعر تنبع من تجربة.
ولكن هذا الاعتلال متسق تمامًا مع حضور الطابع الأوروبي الثقافي، لا في المدلولات الثقافية للوحات ماغريت ولا في التناص وعتبات النص وحسب، بل يتسلل اقتحام العالم السردي من قبل المؤلف حتى إلى الصور والتشبيهات، مما يكرس فكرة تهاوي العالم السردي أو الدييجيسيس للرواية. أراد حسينزم أن يضيف هنا نقطة حول حضور ما يسميه بنوستالجيا المثقفين والحكمة المصطنعة، مشيرًا لما يتكرر في صفحات الرواية من الحنين لظروف الماضي بوصفها قيمًا عليا (مثل إمكانية عيش الناس بانقطاع عن الاتصالات بكل وقت)، أو محاولات السارد المستمرة لاستخراج حكمة أو فلسفة من كل شاردة وواردة. لكن قلت له أن التدوينة طويلة بما فيه الكفاية.
هل يمكن قراءة رواية “هذه ليست رصاصة” بوصفها خطابًا حول موضوعات ثقافية تخص الأسرة والأبوة وقيم المجتمع المحافظ إلخ؟ بكل تأكيد، لكنني لست ممن يستطيع القيام بذلك مع عمل ينقض العقد الضمني بيني وبينه وعلى نحو جذري هكذا. يصعب عليّ دراسة الخطاب ورصد اتساق فكرة ما ومتابعة تكرار ثيمة محددة ومساءلة الشخصيات والقيم داخل عالم سردي متهاوي، لأن ذلك يتطلب مني الكثير من التجاوز إلى حد إعادة كتابة العمل كاملًا.
أطلت الحديث وربما أغضبت الكثير، ولكن عادي طنشوا.. فهذه ليست مراجعة.