أقرر أحيانًا قراءة كتاب أعلم أني سوف أكره، ليست مازوخية وإنما الفضول الذي دائما ما ينتصر على الأذى المحتمل. لن أذكر عنوان الرواية، قرأت بعضا منها ومن ثم توجهت إلى موقع غودريدز كي أتطفل على آراء بقية القراء. عدد تقييمات العمل عال جدا بالرغم من جدته، وقد يكون قصَر العمل أحد الأسباب. سطر واحد من هذه المراجعات هو من حفز فيّ فكرة قديمة لكتابة هذا المقال، حين عبر أحدهم عن امتعاضه من الرواية، وأن عناصر الحياة المعاصرة لم تكن كافية لتجعل من الرواية نصا خفيفا على القلب، والمقصود بالحياة المعاصرة هنا هي أشياء مثل تويتر ولعبة ببجي وما شابهها. وهنا توقفت للتفكير في مثل هذه العناصر أو الأشياء التي تغيب بشكل كبير عن الرواية السعودية، مما يجعل عالم الرواية يختلف عن العالم الواقعي – وهذا اختلاف مقبول – إذ نعلم أن الرواية تعكس الواقع ولا تستنسخه، ولكن الاختلاف الذي أتحدث عنه يتعلق بالفضاء وثقافة المكان وممارسات أهله.
أخذتني هذه الفكرة إلى تأمل طويل حيال شريحة كبيرة من القراء الذين أستقصي آراءهم وأفكارهم حيال الرواية العربية على المنصات المختلفة، مع التعليقات الكثيرة المقتضبة على صفحات التواصل الاجتماعي. أتحدث هنا عن القارئ الرافض لخروج الرواية من فضاءات وعوالم محددة، ولابد أن تكون هذه العوالم بعيدة عن واقعه، وهو ما يجعلني أظن أن هؤلاء القراء يهربون إلى الأدب، ولا يحضر هذه الأخير إلا بصفته ملجأ، غرفة سرية يدخلها ليهرب من عواصف اضطراباته وأحزانه المحيطة به في واقعه.
لحظت نوعين من الهروب؛ الهروب الأول هو هروب أصحاب الامتياز، أولئك الذين يملكون رفاهية بذل الجهد والوقت كي يذهبوا ويعيشوا في عالم بعيد عن عالمهم، ليس بالضرورة عالم الخرافات Fairy tales – يا ليت – وإنما عالم مشابه لعالمهم ولكنه يسمح لهم بتجاوز ملل واقعهم، في أماكن مثيرة تدور فيها أحداث هذه الرواية، في مدن بعيدة، تقع بين حدود الممكن والبعيد، في مدينة أوروبية أو شرق آسيوية أو أمريكية جنوبية، مكان يسمح بخلق صور رومانسية عنه لا تشبهها، أو في مدن خيالية لكنها تحمل طابع المكان البعيد القابل للرمنسة. أصحاب هذا النوع من الهروب القرائي لا يعانون من مشكلات حياتية مؤرقة، بل هي أقرب إلى مشاكل العالم الأول، يعانون من ملل الحياة المعاصرة، وغياب الحبيب، والوظيفة المملة.
أما النوع الثاني من الهروب، فهو لمن يستخدم القراءة بوصفها مخدرا لمآسي القارئ الذاتية التي يهرب منها، مثل تجربة زواج فاشلة أو صعوبة تحصيل الرزق أو الهجرة والنزوح أو فقد قريب كالوالدين. يمكن القول أن هذا القارئ يتألم بشكل مستمر، ويحتاج إلى أن ينسى وينغمس في أنشطة كفيلة بتشتيت ذهنه عن هذا الألم، حتى لو كان هذا النشاط حياكة صوف بالإبر، أو إدمان ألغاز السودوكو.
يشترك هذان القارئان في رغبتهما في الهروب من الواقع وموضوعاته وأشكاله وتجلياته. كلاهما يهرب من القراءة حول ما يتعلق بموضوعاته الشخصية، إذ لا يود هذا القارئ من خلال قراءة الروايات - أو غيرها من الكتب - في مجابهة الواقع ومساءلته وتحديه، قارئ غير فاعل وغير نشط ثقافيا، وغالبا ما يعبر عن قراءة الروايات بنشاط لغرض المتعة وتزجية الوقت. بالنسبة لهذا القارئ، هناك عالمان، عالم الحياة الحقيقية وعالم الخيال الروائي، ولا ينبغي لهذين العالمين أن يتداخلان، فالتداخل يهدم أساس فكرة الهروب من العالم الأول إلى الآخر، ويلوث الصورة الرومانسية الشاعرية للعالم الأول.
نعلم أن الكثير يصف تناول موضوعات الواقع الحاضر الخلافية بـ "إثارة الجدل"، وهو مصطلح ينبغي له أن يكون إيجابيا ومطلوبا إلا أن التعبير لا يحضر إلا في سياق البلبلة ومضاعفة المشاهدات، في حين أن الجدل القائم على تقابل الآراء وتصادمها هو ما ينتج المعرفة الجديدة. فمن المؤسف أن تغيب الموضوعات التي ينبغي طرحها وتناولها في الأدب خوفا من وصمة "إثارة الجدل"، وإذا ما أضفنا القارئ الهارب لهذه المعادلة تصبح هذه الموضوعات غير مرغوبة، بل حتى تفاصيل العالم الحقيقي المعاصر مرفوضة، فهي كفيلة بدمج هذين العالمين الذي لا ينبغي لهما الاندماج، إضافة إلى عدم أهلية بعض عناصر هذا العالم اليومي إلى ولوج عالم الأدب.
في ظن القارئ الهارب أن ثمة تفاصيل غير قابلة "للأدبنة" أو ربما يجب القول "الشعرنة"، مثل التيك توك والفيب والآير بودز والبلايستيشن والبودكاست، على خلاف أشياء أخرى مثل القهوة والغرامافون (البشتختة) والغليون والآلة الطابعة والراديو، والتي تشترك هذه الأخيرة جميعها في غيابها عن الواقع المعاصر، مما يجعلها ذات قابلية عالية للرمنسة والشعرنة والحنين. من الجاذب جدا تخيل المعطف الطويل والعكاز وقبعة الفيدورا، ورجل يمشي في أزقة مدينة ذات طابع أثري وتاريخي، يخطو على ورق الخريف الملون، ويستمع لامتزاج صوت الخشخشة بصوت المطر. هذه صور لا تنتمي إلى عوالم الخيال العلمي والخرافات غير المحتملة، بل هي صور واقعية ولكنها بعيدة عن القارئ العربي ويجد فيها "فايب" يملأ قلبه بالدفء والحميمية، مكان مثالي للهروب من الروتين اليومي ومشكلات الواقع. ويحلو له أن يعتقد بأن تلك المدينة الأوربية هي من تحف سكانها بهذه العوالم، في حين أن أبناء تلك المدينة كادحون مثله، ناقمون، ولهم مشاكلهم الحياتية الخاصة، تسحقهم الحياة يوميا وليست ثمة ما هو رومانسي في ذلك المكان، بل هو متواطؤ مع الحياة في دعسهم.
يغيب ما يستخدمه الفرد المعاصر من أدوات يومية عن الرواية العربية لأنها لا تحمل صورة رومانسية، صورة الفرد الذي يستمع إلى البودكاست في شوارع الرياض المزدحمة ليست شعرية، لا تشبه صورة من يستمع إلى المذياع (أبو أنتل) في بلكونة في طوكيو، وذلك غير صحيح لو وظف الروائي الجيد مهاراته لخلق مشاهد وصور أدبية، إلا أن الأمر في الرواية العربية يتعدى غياب الأشياء إلى افتعال حبكات لا تمت لما هو يومي. أتذكر هنا رواية "بريد الليل" لهدى بركات التي أربكت الكثير من القراء فيما يتعلق بزمن الرواية – وهذا مؤشر جيد إذ لا زال بعض القراء يستخدمون عقولهم – ففي بيئة الرواية يظهر أنها تدور في فترة معاصرة، إلا أن المحرك الرئيس والعمود الفقري للعمل هو الحكايات التائهة والمتقاطعة في الرسائل الورقية المكتوبة لأفراد مجهولين. من يكتب الرسائل الورقية اليوم؟! ربما هناك لا زال من يقوم بذلك ولكنها بكل تأكيد حالات نادرة وربما شاذة. ولكن ليس من الصعب تخمين السبب وراء هذا الاختيار للشكل الروائي من هدى بركات، إذ للرسائل الورقية تلك الصورة الجاذبة على نحو شعري ورومانسي في أذهان القراء مما لا تستطيع الرسائل النصية ولا الإيميلات خلقها، وعليه نرى انتصار الصور المرمنسة والمشعرنة حتى على عناصر رئيسة كالحبكة والشخصيات العميقة وغيرها.
يقودني هذا كله إلى عنصر آخر يتقاطع مع ما ذكر، وهو أكثر ما أخشاه، وهو السلفنة، عشق كل ما هو قديم وسالف، وهو ما يعكس احتقارنا اللاواعي لكل ما هو معاصر، ولكل ما نعيشه ونتعاطاه في واقعنا اليومي الحالي. هل كتاباتنا الروائية قائمة على خلق أجواء مرمنسة، أو ما يمكن تسميته بالمراهقة الأدبية؟ ما يجعل هذا السؤال لافتا بالنسبة لي هو التقائه بعدة عناصر تمس المشهد الروائي؛ مثل تكرار الشخصيات والموضوعات على نحو كليشيهي، والعزوف عن الكتابة عما هو معاصر من حيث البيئة والمكان وربما حتى الموضوعات، واندفاع القراء حول الروايات القديمة سواء المحلية أو العالمية، واحتقارنا اللاواعي لذواتنا وثقافاتنا المعاصرة.
حتى فيما يخص حضور ثقافتنا المحلية في الأدب، لا يبرز من أعمال روائية سوى تلك التي تتكرر فيها الصورة القديمة وربما النمطية المتعلقة برمنسة الصحراء والبداوة والقرية والنخيل وغواصو اللولو والنخلاوية وبيوت الطين والبخنق والسامري، الخ. أي أننا نساوي بين الثقافة المحلية والتراث، وما هو معاصر ليس إلا خواء، ترهات غير جديرة بالحضور الأدبي، وهذا كله دون التطرق حتى للخرافة القائلة بأن فن الرواية أدب رفيع.
أما تلك الروايات السعودية التي لا تتناول هذه الثيمات، نرى غياب تام لتفاصيل الثقافة المحلية عنها، إذ تسقط بشكل أوتوماتيكي من حسابات الروائي الأدبية لعدم أهليتها في التواجد في نص أدبي رفيع ومتسامي عن الواقع اليومي، أو لاعتقاده بأن اللغة تعجز عن حملها لتفاصيل اليوم المعاصر ورفعها للمستوى الأدبي، أو ربما لافتقاد الروائي نفسه الملكة اللغوية للقيام بذلك.
كل ذلك يجعلني أفكر أحيانا أن هذا النوع من القراء يريد الهرب من واقعه إلى الرواية، ولكنه في الوقت نفسه هو يهرب منها ومما يمكن أن يقدمه فن الرواية.
Perfect Timing
قرأت المقال بعد قراري بعدم إكمال قراءة رواية تسير أحداثها في فترة الحروب والشيوعية والرسائل الورقية والأنثى الرقيقة والذكر الحزين الخائن بطبيعته، وقولت enough is enough بدور على رواية تشابه الزمن الحالي اكثر او على الأقل ما احس بالملل وانا اقرأها بسبب الأحداث المنقرضة ذي
يبدو لي أن أساس المشكلة هو ضعف القدرة الفنية لدى الروائي نفسه، وعدم قدرته على استخدام الفضاء اليومي والأدوات القريبة بشكل يقاوم ألوانها الباهتة، ويضفي عليها لون جديد ومسحة خيالية تجعل حضورها في الرواية يتجاوز كونها مجرد استنساخ، فهو يهرب منها خشيةً من هذا، ويبدأ في تناول الأدوات الغائبة لأن " تخييلها " إن صح التعبير يهل ومتوفر