المشاهد في شباك المعازيب
خيوط المعازيب، دراما تجبر المشاهد على التشابك مع العمل وتحفزه على نقده
قبل عام وفي مهرجان القراء والكتاب الذي أقيم في الشرقية، كنا محظوظين بأن "نُهدى" كشك تحت مسمى مشروعنا "رؤى"، مشروع معني بكل ما يخص الجزيرة العربية ثقافيا وبشكل أصيل وصادق وتبصيري، نتناول فيه موضوعاتنا الثقافية من أدب ومسلسلات وأفلام ونحاول أن نقدم فيه قراءات لموضوعات اجتماعية تنبع من ثقافتنا مع فك الارتباط في الطرح عن منتجات المركزية الأوروبية، وهذا ما تزعمه هذه المدونة أيضا. كنت أدير ورشة للترجمة تابعة للجمعية السعودية للأدب المقارن. حين أنهيتها وعدت إلى الكشك أخبرني الصديق حسين إسماعيل أن رئيس جمعية السينما، محمد الملا، زار الكشك وأعجب بمنتجات رؤى، أخبرنا حينها أنهم يعملون على مسلسل درامي سعودي سوف يعرض في رمضان القادم (رمضان السنة الماضية قبل أن يعلن تأجيله لشهر رمضان هذا العام)، ويتوقع له نجاحا فقد تم الاشتغال عليه لفترة طويلة وبشكل جاد. منذ ذلك الوقت وأنا أترقب هذا المسلسل.
🎶اللي ظلم واللي قسا.. عايش حياته بألف خير🎶
🎶واللي سقى نخل الحسا.. ينام وفراشه حصير🎶
يصعب علي تجاهل مقدمة المسلسلات، بالنسبة لي هي أهم عتبات العمل الفني، وقد سبق لي الكتابة حول ذلك. ستكون بداية جيدة للحديث حول مسلسل خيوط المعازيب انطلاقا من تتر العمل.
راقت لي كلمات الأغنية جدا وهي من تأليف خالد عوض وأنا الذي أزعم أن العمل الموسيقي أهم من كلمات الأغنية، ومقدمة أغنية خيوط المعازيب ليست باستثناء. يحيل العمل الموسيقى للمقدمة مباشرة إلى مقدمات المسلسلات الخليجية التي راجت نهاية التسعينات وبداية الألفية الجديدة، مسلسلات مثل دارت الأيام وجرح الزمن وثمن عمري وحكم البشر ويوم آخر وغيرها الكثير، أي أنها موسيقى لا أرى أنها تنتمي إلى مسلسلات الحاضر والتي سيقوم المشاهد وبشكل طبيعي المقارنة بينها وبين ما يطالع من مسلسلات عالمية أخرى. على سبيل المثال، رأينا مسلسل رشاش كيف برع في تقديم تتر عظيم من إبداع التونسي أمين بو حافة، يجسد فيه هوية الصحراء باستخدام المزمار والتشيللو، وجاءت متسقة تماما مع إحدى ثيمات العمل وهو الصحراء، وذلك غير مستغرب على بو حافة الذي أبدع هذا العام في مقدمة مسلسل "الحشاشين". في حين جاء العمل الموسيقي لمقدمة خيوط المعازيب تقليدي وبلا هوية، لا يشبه الأحساء إلا في كلمات الأغنية التي أشارت إلى ثيمات رئيسة في العمل تتمثل في الظلم وسلطة القوي وألم المظلومين وبنبرة حزينة تعبر عن مشاعرهم.
تدور أحداث المسلسل في قرية أحسائية وفي مجالس المعازيب الذين كانوا يسيطرون على حرفة حياكة البشوت. يعرف المشاهد منذ البداية أن شخصية بو عيسى (عبد المحسن النمر) هو عمود العمل، وما الشخصيات الأخرى مثل جاسم (إبراهيم الحساوي) وابنه فرحان (محمد عبد العزيز) ورويشد (فيصل الدوخي) والبقية إلا شخصيات ثانوية وشبه ثانوية تدور في رحى بوعيسى. وعليه، سأتحدث عن شخصية بو عيسى أولا.
شخصية بو عيسى هي الأكثر جاذبية للسواد الأعظم من متابعي المسلسل، ولكني واجهت مشكلة كبيرة في تقبل هذه الشخصية. لا شك لدي أن الفنان عبد المحسن النمر ممثل متمكن وذو خبرة كبيرة جدا، إلا أن أداءه في تجسيد شخصية الشر جاءت كاريكاتورية، أي أن هناك مبالغة شديدة في إظهار الشر بلغة جسده وصوته، الصراخ والتقريع الدائم لكل من حوله، وتقليب عينيه يمنة ويسرة ليقول بشكل مباشر أن نواياه سيئة وأنه يخطط لمصلحته فقط والإضرار بالآخرين. لا أحب هذه المباشرة في التلقين، بل أرى أن استبطان الشر سمة أكثر جاذبية من الناحية الدرامية، وهذا ما نراه إذا ما قارننا بين بو عيسى وشخصيات شريرة في أعمال عالمية أخرى، نرى تلك الشخصيات أكثر تعقيدا، نواياها السيئة دائما ما تكون ممزوجة بأسباب مقنعة لأفعالها وتبرر اتخاذها لها من حيث تقف على الأقل، ولذلك فإن من أسس كتابة الشخصية الدرامية الجاذبة هو تجنب الميلودرامية، أي انشطار الشخصيات بين الخير والشر، وكتابة شخصيات تتوزع على طيف هذين النقيضين، وهذا ما يستوجب كتابة خلفية درامية Back story لكل شخصية كي تكون واقعية وأفعالها متسقة مع تشكل شخصيتها خلال رحلتها الحياتية. أما هذا النقاء الشرير في الشخصية تظهر كما لو كانت ترغب في الشر لذاته، وهذا لا يتماشى إلا مع الشخصيات الكرتونية، شرشبيل أنموذجا.
ولكن هناك حسنة لكاريكاتورية هذه الشخصية، وأحسب أن النمر أبدع في استغلالها، وهو الجانب الكوميدي. استطاع بو عيسى أن يضحكني كثيرا من خلال "تسفيلاته" لمن حوله وباللهجة الحساوية، أبدع فيها جميعها على كثرتها، ومنها أظهر أن عبد المحسن النمر فنان كبير ومتمكن، سأتطرق لاحقا إلى ما كان ينبغي القيام به لتقديمه بشكل أفضل يتعدى هذه الكاريكاتورية.
أوه.. تذكرت أيضا حسنة أخرى، شخصية بو عيسى ستكون مخزن ممتاز للريآكشنات.
ازداد وعي المتلقي، وقد تراكم لديه الكثير من الخبرات عبر مطالعة مختلف الأعمال العالمية المكتوبة بحرفية عالية وأصبح يعي لماذا شخصية توني سوبرانو - مثلا - شخصية درامية معقدة، كذلك والتر وايت في بريكن باد ودون دريبر في ماد مين والأمثلة أكثر من أن تحصى، بل أصبح ينتبه كيف صارت المسلسلات الحالية تتحدى مفاهيم رئيسة كالخير والشر وتتحدى حتى فكرة الجنر (الكوميديا والتراجيديا والرعب.. إلخ، قد أتحدث عن ذلك لاحقا). رأى المشاهد زعيم المافيا يتردد على أخصائية نفسية، ودخل إلى بيته ورأى علاقته الحميمة جدا بأسرته، كذلك رأى كيف مدرس منضبط قانونيا وأخلاقيا يتحول إلى وحش من خلال اكتشافه لذاته في سن متأخرة، ورأى كيف يتلبس رجل بماض غامض شخصية أخرى في ماد مين، في الواقع رأى المشاهد الكثير من الشخصيات المكتوبة بوعي عال، ولذلك حين يشاهد، أو أشاهد أنا، شخصية بو عيسى أرى أنها تعتورها الكثير من المشاكل على مستوى الكتابة.
كيف كان بالإمكان تطوير شخصية بو عيسى؟
من وجهة نظري كان بالإمكان الذهاب باتجاهات متعددة لتطوير هذه الشخصية التي تحمل قابلية الشخصية الجاذبة دراميا للمتلقي. إحداها، هو التطرق إلى ماضي بو عيسى، سيكون من المثير للاهتمام أن نرى بو عيسى كما رأيناه ولكن لبضعة حلقات (٦ أو ٧ حلقات)، ومن ثم ينكسر السرد الزمني الخطي ونبدأ نرى خط زمني قديم، قبل الأحداث الحالية بعشرين أو ثلاثين سنة، نرى فيه بو عيسى يتشكل عبر علاقته بوالديه مثلا، ومن خلال ذلك يضطرب المشاهد حين يرى نفسه يتعاطف معه، وقد ذكر ذلك بو عيسى بشكل سريع جدا للتاجر النجدي حين أشار إلى أن "تدليع" الأولاد ليس بصحي وأنه عاش طفولة صعبة وتلك هي الطريقة السليمة للنضج. ذلك كفيل في ظني أن يرفع من المستوى الدرامي للعمل ويكسر فكرة الشر المحض المتأصل فيه غير المبررة. وبذلك أيضا يتجنب كتّاب العمل الحبكات الثانوية القصيرة التي كانت تبدأ وتنتهي بشكل سريع جدا لملء دقائق الحلقة، مثل خطف زوجة رويشد للطفل وبعد دقائق يكتشف ذلك ويعيده إلى أمه، وحبكة سجن جاسم وغيرها الكثير الذي تورط كتاب العمل بإدراجها ومن ثم إنهائها بشكل سريع لأن وقت العمل لم يكن ليسمح لها بالتمدد بشكل عضوي وجاذب.
من جانب آخر، يخلُ المسلسل مما أسميه المادة الثقافية المعرفية، والتي دائما تكون موجودة في الأعمال المكتوبة بشكل ممتاز ولكن على نحو مخفي، كثيمات تسير تحت السطح. على سبيل المثال، نرى في مسلسل بوجاك هورسمان ثيمات مثل احتقار الذات ونراها مؤسسة بشكل معرفي عميق يخضع لمدونات الطب النفسي، أو كما نرى في بيتر كول سول كيف يحاول "جيمي" الحصول على تقدير أخيه الناجح أكاديميا ووظيفيا ضمن الحقل المعرفي ذاته، كذلك الأمر مع بطلة فليباغ التي تحاول أن تعوض النقص الذي تشعر به من خلال الجنس. ليس بالضرورة أن تكون المادة الثقافية من خلال الدواخل النفسية، قد تكون ضمن حقول معرفية وفكرية أخرى تتعلق بالجندر والطبقة الاجتماعية ودينمايات القوى بين فئات المجتمع، وكان لخيوط المعازيب فرصة جيدة لذلك، فقد رأينا بو عيسى الذي يشتري الأراضي والنخيل كأصول له، كموارد للإنتاج يستطيع من خلالها فرض سيطرته على الطبقة العاملة والفلاحين. للمنطقة تاريخ حافل في هذا الموضوع، تاريخ الإقطاع، وكان كل شيء مهيأ لإرساء شخصية بو عيسى والحبكة الدرامية معرفيا وثقافيا من هذا الباب، ولكن تم تهميشه بالكامل.
الكتابة الجيدة لشخصيات العمل الدرامي هي إحدى أعمدة نجاحه، ولكن حين نرى جميع شخصيات العمل بدون استثناء لم تتغير أبدا منذ الحلقة الأولى إلى نهاية المسلسل، بو عيسى شرير طوال العمل وبو موسى المعزب الطيب طوال العمل كذلك، والأمر ذاته مع بقية الشخصيات من رويشد إلى جاسم وفرحان وبقية الصبية وبدرية ومعتوق وبو أحمد، والتغيير الذي أقصده ليس ذلك المتعلق بالحبكة وإنما ما يسمى بالكاركتر آرك (الرحلة الذاتية للشخصيات)، حيث تتغير قناعاتهم وقيمهم، ولكن التغيير البسيط الذي رأيناه في بعض الشخصيات هو تغير في سير الأحداث فقط، مثل طلاق بدرية من جاسم الذي أودى بالأخير لأن يعتزل بين الجبال، أو تغير فرحان وهروبه بحثا عن عمل. عدم تغير الشخصيات ليس سيء في ذاته، المشكلة في إضمار فكرة جوهرانية الخير والشر في النفوس البشرية، وهي فكرة قائمة على حكم القيمة وليس الظروف المحيطة بالفرد، وكأن الكاتب يؤمن بأن هناك من هم "بذرتهم خبيثة" في مقابل أولئك "فاضلي الطينة"، وذلك يتسق تماما مع الفكرة السابقة حول أفعال الشخصيات من خير وشر محضين. ولكن أيضا يتسق مع فكرة أهم.
الشخصية الدرامية = المنظور، غياب المنظور عن كثير من شخصيات المسلسل يختزل المشكلات التي ذكرتها سلفا، لأن المنظور هو ما يحدد قيم الشخصية وما ترغب إليه وقراراتها في تحقيقه ومنها نرى العقبات، وهذا كله يرسم المادة الثقافية المعرفية لها وللعمل ذاته، وهو أيضا – المنظور – الذي يخرجنا من ثنائية الخير والشر بشكلها التقليدي الممل، ويكفينا غثاء إطلاق الأحكام، ومنه تتحرك الشخصيات بدوافع بشرية طبيعية رغبوية إنسانية، وليس لأن بذرتها حسنة أو سيئة. حين نلقي نظرة على شخصيات العمل، وهنا سأتجنب الشخصيات الهامشية مثل صاحب المزرعة وابنه اللذان رفضا بيع المزرعة لأبو عيسى والدكتور المصري وصاحب المقهى وابنه وغيرهم لتجنب فرض الفكرة على العمل، ولكن سأختبرها على الشخصيات الرئيسة. معتوق.. وش يبغى؟ أستطيع القول (أو ربما التعذر) بأنه شخص باحث عن الحب، أحب ابنة الدكتور ومن ثم أم أحمد، من الواضح كيف أن هذه الحبكة بسيطة جدا ومملة في شكلها هذا، ولكن الأهم.. ما الذي حدث بعد أن تزوج أم أحمد وبعد صدامه الذي انتهى بسرعة مع أبو أحمد؟ لا شيء.. انتهت شخصيته، أصبح معتوق اللي يشيش في القهوة ويصرخ (علطول يصرخ هو). كذلك الأمر مع أم أحمد، ما الذي تريده؟ تنتظر زوجها وتخيّط على ماكينة سنجر؟ بل يتعدى الأمر إلى شخصية رئيسة أخرى وهي رويشد الذي يريد أن يؤمّن حياة كريمة لأسرته وأخته وأبنائها، كيف؟ بمداراة ولي نعمته بو عيسى، ولا يقوم بشيء آخر، قد نقول أن إحدى سمات شخصيته هي العجز، ولكنه ظل عاجزا ٢٥ حلقة إلى أن سرق أموال أبو أحمد، شخصية كسولة بالمعنى الدرامي، بل أرى زوجته سارة شخصية كتبت بدرامية أفضل، امرأة تريد أن تنجب وهناك مانع لا تعرفه ولكنها تسعى وبشتى الطرق للحصول على مبتغاها حتى جربت الفحال! كثيرة هي الشخصيات الفارغة دراميا في هذا المسلسل، وهنا أؤكد أني أتحدث عن الشخصيات من حيث الكتابة وليس الممثلين وأداءاتهم.
وبذلك يكون العمل قد ألقى بثقل نجاحه على الحبكة فقط.
الحبكة هي الأخرى التي جاءت بأخطاء كثيرة كتابيا. العصب الرئيس في رأيي لأي حبكة – وهو عنصر يتم تجاهله كثيرا للأسف – هو الوتيرة، تسارع الأحداث. كثير هي الحبكات الثانوية التي جاءت بشكل سريع جدا كما ذكرت، لو خُير الكاتب بين تسارع عال غير مقنع وتسارع آخر بطيء قد يصيب المشاهد بالملل، فالأخير هو الخيار الآمن، لأن الأول يؤدي بالضرورة إلى فساد العمل، بينما الثاني وإن كان فيه إشكال إلا أنه أبقى في الذاكرة وأكثر إقناعا، يتغاضى المشاهد عن الملل أحيانا لكنه ينزعج ويرفض التسارع غير المعقول. المشكلة الرئيسة في ذلك باتت واضحة للمشاهد اليوم، وهي مشكلة الثلاثين حلقة. لو كُتب خيوط المعازيب على شكل مواسم لكان عملا أكثر نجاحا بمراحل، واستطاع أن يتخطى مشكلة الوتيرة المتسارعة. وغالبا ما تزداد هذه المشكلة مع تقدم العمل، وظهر ذلك جليا في الحلقات الأخيرة حيث اضطر الكتّاب إلى تقفيل هذه الحبكات والحبكة الرئيسة، ولذلك جاءت النهاية سريعة، ولأن العمل ميلودرامي وشخصياته ثابتة، جاءت النهاية أيضا كلاسيكية وسعيدة، يموت فيها الشرير وينتصر الخير ويعم السلام على القرية.
المشكلة الأخرى هي غياب طبيعية توالي الأحداث، وهذا غير مستغرب إذا ما ربطنا هذا بسطحية الكثير من الشخصيات دراميا ومشكلة الثلاثين حلقة. بل هناك عنصر آخر ساهم في غياب هذه العضوية في تتالي الأحداث، وهو الرغبة والتركيز على إبراز التفاصيل الثقافية الأحسائية، أي أن الحدث أحيانا لا يكون مقنعا وإنما رغبة في صناع العمل أن يبرزوا الهوية الأحسائية كالأغاني وطرق العزاء والأعراس وكل التفاصيل الثقافية الأخرى. بكل صدق، أتقنوا في تصوير ذلك كله وكان ممتعا ولكنه جاء على حساب عنصر رئيس وهو الحبكة، وأيضا لإرضاء رغبة الجمهور المتوقعة في رؤية كل ذلك، لن أطيل هنا لأنني نشرت للتو حيال هذا الموضوع تدوينة في مدونة أها! التابعة لمنصة ثمانية.
على الرغم من المشاكل الكتابية للشخصيات، إلا أنه من الإجحاف عدم الإشادة بأداء الممثلين والممثلات، فيصل الدوخي بالنسبة لي كان الأكثر إبهارا، أداء بدون أوفرة، مقنع وسهل ممتنع، آمال الرمضان أسعدتني جدا بظهورها الطبيعي جدا، كانت جميلة شكلا وأداء. أما صبية الحارة، فتحية كبيرة لهم على هذا الظهور الأول الممتاز. ممثلي وممثلات العمل كلهم نجوم وليس فقط عبد المحسن النمر وإبراهيم الحساوي، ويستحقون جميعهم كل الإشادات التي طالتهم، وأتمنى لهم أعمال قادمة أجمل.
مرة أخرى نرى كيف تنجح الصورة دائما في رفع مستوى السرد وإنقاذ العمل من الانزلاق بجوار الأعمال المتوسطة، فاللغة البصرية غالبا ما تكون الهوية الأبرز والأسهل انتباها للمشاهد. كثيرة هي الأعمال الدرامية التي تفتقر مشاهدها إلى أبسط أساسيات جماليات الصورة السينمائية، وتكتفي فقط باللقطة المؤسسة (Establishing shot) ومن ثم مداورة اللقطة بين المتحاورين من خلال الكاميرا خلف ظهر الممثل المقابل، بينما في خيوط المعازيب رأينا مختلف اللقطات، ومختلف حركات الكاميرا، رأينا العدسة تحاول أن تسرد أو تشارك في السرد على الأقل. صحيح أن بعضها جاء كلقطات جمالية لنرى بيئة الأحساء وجمال نخيلها، وبيوت الحارة من الأعلى، إلا أن كثير منها جاءت بفريمات مدروسة بصريا وتهتم بموضعة الشخصيات والعناصر الأخرى في أماكن محددة (blocking). رأينا كيف تغيرت العدسة من المنظور المحايد إلى منظور بدرية حين دخلت منزل بو عيسى للمرة الأولى لتسرد لنا انبهارها وربما طمعها، كثيرا ما رأينا إطارا داخليا داخل إطار العدسة، رأينا تحاور الشخصيات دون تنقل تقليدي بين اللقطات، وذلك ليس بمستغرب إذا كان المخرجان هم عبد العزيز الشلاحي ومناف عبدالله.
قد نستطيع القول أن البطولة الأولى لهذا العمل هو المكان، الأحساء، لهجتها وقيمها وكل تفاصيلها الثقافية، قد يبرر ذلك سبب انزعاج الكثير من الأحسائيين من أي نقد على المسلسل حيث يشعرون أن أي نقد هو نقد يطالهم هم، ويصعب عليهم الفصل بين المسلسل وبين هويتهم فهما متداخلان بشكل كبير، وعليه تكون المنافحة عن المسلسل مسألة قومية. كذلك شعرت كمشاهد أن العمل إثني ومعني بتوثيق كل مايخص ثقافة المنطقة في فترة الستينات، على حساب درامية العمل.
أخيرا..
قد يبدو من كلامي أني حانق على مسلسل خيوط المعازيب، وحقيقة الأمر هي العكس، قضيت ٢٥ ليلة مع هذا العمل، كنت أعود للمنزل ليليا متحمس لمطالعة الحلقة الجديدة، ومن الظلم عدم شكر وتقدير كل من شارك في هذا العمل، فمثل هذه الأعمال هي ما تحتاجه الدراما العربية لكي يتمكن المشاهد من ممارسة النقد، إذ لا جدوى من نقد عمل خاو وفارغ وبلا قيمة. نجح خيوط المعازيب جماهيريا، وأيضا نجح في تحفيز الجميع على الحديث والكتابة عنه، ولكن ما هو التكريم الحقيقي لمثل هذا العمل؟ من حق صانع أي عمل أن يسعى لتلقي الإشادة والمديح من الجميع، لكني أخال السعي وراء المديح فقط هي من سمات المراهقة الفنية، ولا تليق بالأسماء الكبيرة الموجودة في العمل، التكريم الحقيقي لهذا العمل هو أن نقرأه ونكتب عنه ما يتجاوز ثنائية المدح والقدح، نحلل ونسائل ونستشكل ونناقش فذلك ما يرفع العمل وليس الإطراء فقط. مسلسل خيوط المعازيب يختبر إن كان هناك فعلا حركة نقدية، فقد اجتهد بشكل كبير جدا وقدم هذا العمل الممتع، وعلى المشاهدين أن يجتهدوا بعشر معشار الجهد الذي قدمه صناع العمل. هم تقدموا مئة خطوة للمشاهد ويستحقوا من المشاهد أن يتقدم بضع خطوات على الأقل إليهم.
لتكن بداية لدراما سعودية تجذب المشاهدين بشكل طبيعي وعضوي، وخطوة أولى لتطور الدراما العربية.
أكثر ما أتفق معه هو عقدة عرض جانب الشر والخير في مسلسلاتنا، لازال النهج في ذلك طفولي وغير ناضج، إما أن تكون الشخصية شريرة وإما أن تكون خيرة، ولا يمكن لهذين النقيضين أن يتداخلا. المشكلة الأخرى هي عرض المسلسلات كمسلسلات قصيرة ومحدودة وأظن أن الكتاب لازالوا يتخوفون من عرض مواسم لأن فيها مجازفة، فهم بذلك سيضطرون للتعمق أكثر في القصة والخوض أكثر في التفاصيل، الاختصار وسرعة تقفيل الحبكات كما ذكرت طريقة آمنة وبسيطة، ربما بقليل من التشجيع والنقد البناء كما طرحت في هذه المقالة، أن يكون سبب في أخذ خطوة شجاعة لكتابة مسلسل يعطي القصة والشخصيات حقها.
مقالة نقدية ممتازة، وأستطيع أن أقول أنها بداية رائعة لمدونة بمحتوى واعد.
أحداث المسلسل تدور في مدينة الهفوف عاصمة الأحساء وليس في قرية