ترددت كثيرا في عنوان هذه المقالة، الـ Game، وهي مفردة اصطلاحية، فقررت تعريبها بدل ترجمتها، ولكن التعريب أيضًا إشكالي من حيث الكتابة وعليّ أن أٌقرر أذا ما كنت سأكتبها القيم أو الجيم أو الغيم، إذ أن جميعها تحمل معانٍ في اللغة العربية، أما كتابتها هكذا "الـگيم" فهو مستبعد، لأنها.. قبيحة. لكن لمفردة الغيم العربية على خلاف البقية مدلول قد يتناسب مع ما أرمي إليه في هذه المقالة، إذ للغيوم دلالة الحجب، كحجب الشمس وضوئها فيكون الجو غائمًا، وأيضًا التقاطع بين الغيم والضباب، الذي نستل منه مفهوم الضبابية وعدم الوضوح، وهذا كله من المعاني المحتملة لما أريد أن أتحدث عنه حول "الغيم" كلغة تدوالية نقصد من خلالها ما لا نقول فيها، لغة محكومة بالبروتوكولات غير الصريحة، وميدان وعر من اللعب السياسي وفن الممكن. ولكني سأحورها قليلا وأكتبها الغايم، للتفريق بينها وبين الغيم، ولأن الغايم أقرب للفظ الإنجليزي ويبقي أيضًا دلالة الضبابية.
في السابع من أكتوبر، أوه لا.. ليس ذاك (اللهم فرج عن غزة)، هذا سابعٌ من أكتوبرٍ آخر، يعود إلى العام ٢٠١٨م. أجول في داون تاون كالغاري بمعطفي الجلدي ووشاحي الطويل من بارٍ إلى أخر، لكن جميعها ممتلئ عن آخره، وكذلك جميعها تضع أمام أبوابها سبورات صغيرة على الأرض تعلن فيه عن عرضهم للنزال المنتظر بين المصارعيْن الروسي حبيب نورماغيميدوف والأيرلندي كونر مكريغور بعد شهور طويلة من التصريحات والمشاغبات والتعدي اللفظي والجسدي. هنا ملخص سريع للقارئ والقارئة العزيزين لمن لا يملك أدنى معرفة عما أتحدث عنه هنا. حبيب وكونر هما مصارعان في لعبة الـ MMA (Mixed Martial Arts) أي الفنون القتالية المختلطة، ومعنى مختلطة هنا هو أحقية المصارع باستخدام أي من الفنون القتالية للألعاب الأخرى فيستطيع أن "يخلط" بين اللكم كما في الملاكمة أو الركل كما في التايكوندو أو المَسك والإخضاع كما في الجودو، هذا ما تعنيه مختلطة هنا وليس الاختلاط بين جنس المتصارعين والعياذ بالله، كفانا الله وإياكم شر الاختلاط.
هناك عدة اتحادات لهذه الرياضة ولكن أشهرها هو اتحاد UFC، هذا الاتحاد هو مطمح كل مصارع في هذه اللعبة لأنه الأكثر مشاهدة وشهرة، والأعلى أجرًا، أي نستطيع أن نقول أنه كالـ NBA في لعبة كرة السلة. تُحدد المباريات بحسب الترشيح، مدير الاتحاد ومن معه يقررون أي منازلة يجب أن تتم، ومَن مِن المصارعين يستحق أن يخوض نزال حزام الوزن الذي يلعب فيه. في تلك الفترة برز اسم الروسي من داغستان حبيب نورماغيميدوف كمصارع لم يهزم، كمصارع يستحق خوض النزال مع الاسم الأبرز والأشهر في اللعبة وحامل حزام الوزن الخفيف كونر مكريغور.
سبق النزال شهور طويلة من التصريحات والمناوشات والسخرية والاستهزاء والتوعد، واستغل مكريغور الحاجز اللغوي لدى حبيب واستثمر تفوقه اللغوي عليه في كل فرصة، ساخرًا أحيانا ومتوعدًا في أحيانًا أخرى، بل وصل به الأمر لاتهام والد حبيب بالإرهاب، وأن ذلك سبب عدم تمكن والد حبيب – ومدربه أيضًا – من الحضور إلى لاس فيغاس حيث تقام المباريات لأنه لم يستطع الحصول على فيزا الدخول إلى أمريكا، لم يدع شيئًا لم يقله مكريغور عن حبيب، وكأن هناك عداء حقيقي بينهم خارج الحلبة، عداءً يتجذر فيما يمس البشر في هوياتهم المباشرة، لكنهما.. مجرد مصارعين "سيتطاحنوا" داخل حلبة ثُمانية الأضلاع بقوانين محددة وسط حشد جمهوري كبير وسيخرج كل منهما برصّات سميكة من المال بغض النظر عن النتيجة.
استطعت قبل بدء النزال بدقائق أن أجد شاغرًا لمؤخرتي في أحد البارات، وسرعان ما شعرت بخوفي عليها إذ لمحت فور جلوسي شعار البار على الطاولة، يونيكورن 🦄، والكثير من الألوان الفاقعة متوزعة على جدران المكان وشعور رواده، لكن لم أكن لأكترث بعد أن قضيت ساعة كاملة أتنقل من بار إلى آخر في البرد القارص بحثًا عن مكان لمشاهدة النزال. لم يكن النزال بجودة كل الحديث الذي قبله، وانتهى بإخضاع حبيب لمكريغور في الجولة الرابعة بعد أن هيمن حبيب في أغلب لحظات النزال، وذلك ما كان متوقعًا من رجل كان يصارع الدببة في طفولته. هناك جملة محورية ومهمة جدًا قالها مكريغور فور انتهاء النزال ووسط فوران حبيب وطاقمي المصارعين من الجهتين: “it’s just business”، أي أن الأمر كله مجرد عمل أو شغل، أي أن كل ما جرى خلال الأشهر الماضية من سب وشتم واتهامات وتحطيم للباص الذي كان يقل حبيب وطاقم عمله وكل شيء لم يكن حقيقي، لكنه.. كان حقيقيًا لحبيب وربما للكثير من المتابعين، ما الذي يجعله غير حقيقي؟ هنا مثال ممتاز جدًا لأحد تجليات عالم الغايم. في هذا العالم يوجد ما يعرف بالحديث القمامي أو "التراش توك" والذي نراه بشكل اعتيادي في الرياضة حيث يحقّر الطرف الأول الآخر كحيلة نفسية يقتحم بها رأس خصمه والتاُثير عليه وبها يقترب من الظفر بالانتصار. تلتقي مصالح المصارعين مع مصالح المؤسسة هنا إذ ترغب هي الأخيرة بكل تأكيد في ذلك لأنه معزز لمجتمع الفرجة وملبي لرغبة الناس في تتبع الخلافات والصدامات، ومن السهل استثمار ذلك تجاريًا ومراكمة رؤوس أموال تعود بالنفع على الجميع.. win win يَلَد.
علاقة التراش توك بعالم الغايم الذي أقصده هنا هو ضرورة أن تكون المشكلة حقيقية ومقنِعة للمتابع وليست مفتعلة، أي ما يذكره المتخاصمين يجب أن يكون حقيقيًا أو موهمًا بذلك على نحو مقنع. نحن نتحدث عن منطقة رمادية وضيقة وصعبة، منطقة بين مشاكلنا الحقيقية التي تستنزف مشاعرنا وتفجرها ونتحرك من خلالها، وبين تلك المنطقة التي لا تمثل ما يعنينا، والأهم من كل ذلك هو ألا نصرح بذلك علانية بل نقوم به بشكل متواطئ كي لا يتهاوى هذا العالم شبه الزائف، إلا أن الواقع ليس على ذلك القدر من المثالية، وكثيرًا ما يتهاوى هذا التواطؤ. نستطيع القول أن الغايم هو البقاء في تلك المنطقة الحدودية بين الحقيقي واللاحقيقي، بين عالم المؤسسة وخارجه، دون التصريح بذلك ودون أن يتهاوى التواطؤ غير المعلن والمتماسك بالبروتوكولات غير الصريحة، والأمثلة على ذلك كثيرة ولكني سأقصر الحديث حول المصارعة وموضوعات أخرى سأفرد مقالة منفصلة لكل منها.
يزعم أفراد المجتمع الأمريكي – وأنا هنا بصدد العرض لا التأييد أو التفنيد – أنهم قادرون على فصل ذواتهم الشخصية عن ذواتهم المهنية تحت مسمى الاحترافية being professional، أي أن الطبيب عندما يفحص ثدي أنثى لغرض الفحص الطبي لسرطان الثدي فهو منفصل تمامًا عن هويته الشخصية، وما يقوم به هو الفحص بمعزل تام عن أي دوافع أخرى، فهو في تلك الحالة معالج طبي وليس مسعور جنسي، وكذلك الأمر مع كل مهنة أخرى، فحين تذهب إلى عملك فأنت تعبر بوابة العمل وتنزع هويتك الشخصية وترتدي قناع هويتك المهنية وتكون محايدًا وموضوعيًا حيال عملك إلى أن تعود إلى حياتك الشخصية مع مغادرتك تلك البوابة.
تذكرت مسلسلSeverance من إنتاج أبل وأنا أكتب الآن، هل شاهدته؟ هذي توصية لمتابعته. يعرض هذا المسلسل أقصى درجات هذا الفصل بين ذوات الفرد الواحد، فالقصة تدور حول شركة بها قسم خاص يتطلب العمل فيه إلى فصل عضوي في الدماغ إلى هاتين الهويتين، بحيث يكون موظفو هذا القسم بذاتين في جسد واحد، ذات تُفعّل لحظة وصول الموظف إلى قسمه، وذات أخرى تفعل لحظة خروجه، ولا علم لأي ذات عما تعرفه الأخرى. الموسم الثاني سيُعرض قريبًأ وأنا متحمس جدًا له..
المهم..
يكون هذا الفصل المعنوي بين الذوات أبسط في الوظائف الأخرى التي لا تندرج تحت مجال الترفيه، من السهل أن أكون طبيبًا أو مهندسًا أو محاسبًا بشكل صرف ومن ثم أعود إلى حياتي الشخصية بكل ما تحمله من ذاتية، أما في التخصصات التي يتقاطع فيها موضوع التخصص بذواتنا فالأمر يغدو صعبًا، يصعب عليّ كباحث في الأديان أو علوم الاجتماع أو أي حقل من حقول المعرفة الإنسانية أن أكون ذاتًا منفصلة عما أبحث فيه حين يكون موضوع البحث مرتبطًا بهويتي، لا أستطيع أن أكون محايدًا في موضوع الاستعمار أو التمييز ضد المسلمين أو أي موضوع يخص الأقليات، لأن ذلك يمسني بشكل مباشر أو غير مباشر. أما في مجال الترفيه فللأمر صعوباته أيضًا، كيف يمكن أن أفصل بين ذاتي المهنية وذاتي الخاصة إن كنت مغنيًأ أو لاعب كرة قدم أو.. مصارع؟ وكذلك الأمر بالنسبة للكثير من مؤثري السوشال ميديا الذين يقدمون أنفسهم في إطار كاركتر ويظن الناس أنهم كذلك فعلًا، يحدث أحيانًا أن ينحبس المؤثر في تلك الشخصية ويعلق دون قدرة على الخروج منها لذلك السبب، بل يتحول في كثير من الأحيان إلى "براند" لهويته، ولكن سأفرد مقالة أخرى لـ branding الذات. أما الفارق بين المتخصص في الحقول الإنسانية والمنشغل في مجال الترفيه، هو أن الأول منخرط في هوية جمعية بينما هوية الأخير هي هوية فردية، ولكن لن أستطرد في ذلك إذ لا علاقة له بموضوع المقالة.
هل يستطيع أن يكون رونالدو لاعب كرة قدم لفريق النصر في الملعب، ويكون مجرد كريستيانو رونالدو في الشارع؟ يبدو ذلك مستحيلًا فرونالدو تحول إلى صورة، وصورته متلازمة لأكثر هوياته شهرة، وهي: رونالدو لاعب كرة قدم، وكما تقول النكتة المصرية " ID ايه يا عم..؟! وشّك هو الآي دي!"، ولكن ماذا عما يحدث داخل الملعب، هل هو حقيقي؟ جميعنا رأينا ما حدث في نهائي كأس العالم في ألمانيا في ٢٠٠٦م عندما شتم ماتيراتزي زين الدين زيدان ذاكرًا أخت الأخير بأبشع الألفاظ، هل قصد ماتيراتزي ما قاله؟ بالتأكيد لا، بل ما ذكره كان في سياق الغايم، كشكل من أشكال الكلام القمامي الاستفزازي، ولكن سرعان ما تهاوى عالم الغايم ذاك في مصلحة ماتيراتزي إذ لم ير زيدان أن الأمر يتعلق بالتراش توك بل خرج من ذلك العالم الوهمي إلى العالم الحقيقي، ولذلك تعامل معه بقوانين العالم الخارجي وليس عالم الغايم أو حتى المستطيل الأخضر، وعليه.. هناك من يرى أن ماتيراتزي نجح لأنهم ينظرون إلى الأمر من منظور الغايم، نجح لأنه استطاع من خلال هذه اللعبة أن يخرج أهم لاعب لدى الخصم ومن ثم الفوز والظفر باللقب، بينما يرى الآخرون أن زيدان هو من انتصر لمبادئه لأنه دافع عن عائلته وإن كان على حساب شيء كبير مثل كأس العالم، لأنهم يرون الموقف من منظور العالم الواقعي.
تهاوي عالم الغايم يحدث كثيرًا في الفضاءات العامة ومجال الترفيه، لعل من أبرزها مؤخرًا حادثة ويل سميث وكريس روك في حفل الأوسكار قبل عامين، حيث بدأ الأمر بنكتة أو عدة نكات من مقدم الحفل كريس روك في إطار متعارف عليه ضمن شروط عالم الطقطقة الذي يخلقه المقدم لإمتاع وترفيه الجمهور، مستخدمًا في ذلك الحضور من المشاهير كمواد كوميدية في تقديمه، ولأنهم جميعًا في عالم الترفيه فإن الاسترخاء وتقبل السخرية يعد من صفات أفراد ذلك العالم، سنسخر من بعضنا ونضحك ولكن لا شيء جاد أو حقيقي في هذا العالم، سنخرج للعالم الواقعي لاحقًا، ربما حين تُطفأ الكاميرات ونعود إلى مقصوراتنا المغلقة. لكن ما حدث هو أن ويل سميث تعامل مع عالم الغايم ذاك بشخصيته الواقعية من العالم الآخر، واستفزته جدًّا تلك النكات مما دعاه لصفع كريس روك وسط تقديم الحفل. اللافت للأمر أن الجميع لا يفهم حينها ما حصل، هل تلك الصفعة من ضمن العرض؟ في أي عالم نحن، عالم الغايم والضحك والوناسة أم أن ذس شت إز ريل؟ تطلب الأمر وقتًا كي يعي الحضور أن ما حدث "حقيقي" وهذا يبين مدى تماهي العالمين لهؤلاء الحضور.
يذكر الروائي ميلان كونديرا في روايته "حفلة التفاهة" قصصًا تحيل إلى هذا العالم ذات القيم السائلة عبر قصص مختلفة تبرز إمّحاء المعايير المعتادة في هذا العالم، يسائل كونديرا في روايته معايير الانجذاب الجنسي وانتقالها من أماكن معروفة كالصدر والأرداف إلى أماكن غريبة كالسرّة، وأيضًا يشير إلى اختلاف الناس إلى مفهوم النكتة وما ينبغي أن يكون مضحكًأ أو مخزيًا. عالم الغايم هو شكل من أشكال العالم ذو القيم السائلة التي يتسائل فيها الناس في سرهم حول ما هو مقبول وما ينبغي عليهم فعله في المواقف المختلفة، تمامًا عندما تاه الحضور في حفل الأوسكار بين إذا ما كان ينبغي لهم أن يضحكوا أو أن يستنكروا ويدينوا فعل ويل سميث.
عودًا إلى حبيب ومكريغور، تلا انتصار حبيب على مكريغور فوضى عارمة لم تحصل من قبل في عالم المصارعة المختلطة، وساهم ذلك بالإضافة إلى كل التراش توك السابق في انتشار خبر النزال إلى مدى لم يسبق له مثيل، وتعدى دائرة الجمهور المحب والمتابع للعبة، أصبح خبر انتصار حبيب ترند في العالم العربي والإسلامي، ومتابعة تعاطي الأفراد لهذا النزال مثير للاهتمام في ضوء موضوع هذه المقالة. تابعت ما قاله مشاهير السوشال ميديا وبعض المهتمين وغيرهم حول النزال، أتذكر كيف أني ضحكت كثيرًا، أتذكر بدر زيدان يتحدث عن القصة الكاملة بين حبيب ومكريغور على حسابه في السناب شات، والغرابة التي شعرت بها وهو يؤطر القصة كاملة في ثنائية الخير والشر، حبيب المسلم ومكريغور الشرير شارب الخمر، والكثير الكثير من حلب العاطفة، كان يتحدث كما لو كان حبيب في غزوة، بل إن لم تخني الذاكرة عرّض بعض المشائخ حول النزال في بعض خطب الجمعة تحت موضوع نصرة الإسلام. أستطيع أن أقول أن بدر زيدان والكثير ممن تناول هذا النزال من المنطقة نقلوا هذا الموضوع من إطار البرغماتية الأمريكية إلى المثالية الإسلامية والأخلاقية، والسبب في ذلك يعود إلى علاقتنا المتوترة مع مفهوم المؤسسة.
الغايم لا يوجد إلا مع وجود المؤسسة، والمقصود بالمؤسسة هنا ليس الصلب منها بل السلوكيات التي تنتظم في آلية ومن ثم تصبح نمط له سلطة مشروعة على الناس في تحديد المعايير والقيم. علاقة العالم الغربي بالمؤسسات أنضج ومتجذر في تواريخهم المحلية على أصعدة مختلفة، منها فصل المؤسسات الدينية عن مؤسسات الدولة، فصل السلطات الثلاث، انزياح مفهوم الزواج من الحيز الديني المسيحي إلى مؤسسة مدنية، نقد ميشيل فوكو لتحول المعارف إلى مؤسسات، وكثيرة هي الأمثلة التي تبرز علاقة الفرد في العالم الغربي مع مفهوم المؤسسة. وعليه فإن مسألة التشظي والفصل لدى الفرد الغربي أكثر حضورًا منها لدى مجتمعاتنا العربية وربما بقية العالم باستثناء العالم الغربي. في عالم الغايم، تمثل المؤسسة العالم اللاحقيقي وتمثل الحياة الشخصية الخاصة العالم الحقيقي، والغايم هي تلك المنطقة الحدودية الضيقة التي يتماهى فيها العالمان.
أما علاقتنا بالمؤسسة فليست على ذلك القدر من الوعي، هناك تماهي كبير بين المؤسسة وبين المجتمع وبين ذواتنا في الفضاء الأول والثاني، لا أستطيع أن أرفض صديق أو قريب لي في فرصة وظيفية أو مصلحة خاصة، فأنا أنا في هذا المنصب وفي فضاء المؤسسة وكذلك أنا أنا في مجالس العزاء والأفراح والديوانية وأي مكان محتمل للقاء ذلك الصديق أو القريب، والذي من جهته هو أيضًا ذاته في كل هذه الفضاءات، بالتأكيد لا أقصد شطر العالمين الغربي والشرقي تحت هذه الثنائية ولكن مدى سهولة هذا الإجراء بالتأكيد أسهل ودون تأنيب ضمير أو إحراج في – لنقل أمريكا – مقارنة بالسعودية، وذلك تحت مفهوم متواطَأ عليه وهو الاحترافية المحمي بمظلة المؤسسة المهنية والهوية الوظيفية.
في لعبة الفنون القتالية المختلطة وتحديدًا في اتحاد الـ UFC الأمريكي، فإن المؤسسة التي تنظم عالم الغايم في اللعبة واضحة، والحديث القمامي ممارسة قديمة وجدت في الإعلام الرياضي الأمريكي منذ زمن – كانت موجودة في الملاكمة على الأقل ومنذ عقود – أما من جانب آخر فالتعالق بين رياضة المصارعة والعالم الوهمي المحكوم بالسيناريو له وجوده أيضًا في الساحة الرياضية الأمريكية وذلك في المصارعة الحرة التي تندرج تحت WWF سابقًا وWWE في الوقت الحالي. في المصارعة الحرة نعرف تمامًا أن هذا العالم مفتعل وخيالي، والكاركترات التي يلعبها المصارعين كذلك بارزة ومضخمة من حيث الأزياء والتصرفات، مثل الأندرتيكر وهولك هوغن وغيرهم، ويعلم الجميع أن هناك فاصل بين عالم المصارعة الحرة والعالم الواقعي في الخارج (ربما باستثناء الأطفال وهي موجهة لهم أساسًأ)، لا أحد يتصور أندرتيكر داخل صالة بيتهم بالبالطو والجرة. كذلك الانقسام بين شخصيات الأخيار والأشرار واضح أيضًأ. أما في الـMMA فالعالم نفسه موجود ولكن الواقعية الزائفة فيه مقنِعة لأنها "حقيقية" بمعنى عالم الغايم، هناك الشخصيات الشريرة مثل مكريغور وسونين وغيرهم وهناك الشخصيات الراقصة والمهرجة مثل توني فيرغسون، بل تلبّس المصارع لشخصية يعد حسنة تساعد في شهرته، ولكن الفاصل بين العالمين خيط رفيع جدًا لا يكاد يرى، حتى أننا نتساءل: لحظة لحظة.. هل مكريغور يتصرف كذلك مع زوجته وابنته؟ وتزداد حيرتنا حين نرى مقاطعه على السوشال ميديا بذات الشخصية، ولكن السوشال ميديا أيضًا هي فضاء عام ويختار ما يظهر فيه المصارع حتى وإن كان مع أسرته. ولكن في مقابلة سابقة ظهر مكريغور مرة بشخصية مختلفة تمامًا بدت "طبيعية" كأب مهتم بابنته ورجل أسرة ودود، قبل أن يعود مرة أخرى بشخصيته الشريرة الساخرة والمؤذية لفظيًا قبل نزاله مع دستن بورييه، حتى أنه ذكر في إحدى المؤتمرات مستفزا بورييه أن زوجته كانت تتودد له في الرسائل الخاصة، يمكن أن يعد ذلك مقبولًا في عالم الغايم، ولكن في أوساطنا الاجتماعية؟! هذا مما يعد جده جد وهزله جد.. والدم للركب.
لا أقول بأن الفرد العربي غير واع أبدًا لعالم الغايم وتمظهراته السياسية في حياته اليومية، ولكن تعامله معه يختلف عن الفرد الأمريكي الذي يجد مرونة في تغيير وتشكيل هذا العالم بأريحية أكبر، فهو لا يكتفي بالتأكيد عليه أو محاربته بل يحاول أن يجد منطقة وسطى يستطيع من خلالها الاستفادة منه في صالحه، بينما يكتفي الفرد في تعامله مع المؤسسة على ثنائية الاندماج والمعارضة. فلو أخذنا على سبيل المثال المؤسسة الدينية فنجد أن السواد الأعظم ينشطر بين منخرط تمامًا في المؤسسة ومنافح بصوتها وبين معارضين أشاوس في الطرف الآخر ينتقدون كل صغيرة وكبيرة تساهم بالإطاحة بما تحمله هذه المؤسسة من سلطة، ونادرًا جدًا أن نرى من يحاول أن يضفي معنًى آخر على هذه المؤسسة وأخذها في اتجاه مختلف تمامًا. ولعله لذات السبب يغيب أي وجود في أوساطنا الرياضية لهذا التراش توك، أو لأقل لا يخطر ببالي أي رياضي يستخدم عالم الغايم ويقتحمه بكاركتر مختلق لكنه مقنع لأننا لا نعي هذا العالم. ربما أبرز تجلياته هو ما نراه مؤخرًا في حسابات الأندية السعودية عندما تغرّد على "إكس" ساخرة بشكل تلميحي من هزيمة غريمها التقليدي، حديث قمامي لكنه مقنن جدًا وتحت هويات غير شخصية كحساب لمؤسسة (النادي) وبشكل غير مباشر، لأن عالم الغايم هو العالم الحقيقي بالنسبة لنا في الرياضة.
أنا محب بالتأكيد لرياضة المصارعة المختلطة، ولكثير من الرياضات أيضًا، ولكن أخال أن القارئ يستطيع أن يتحسس أني أنطلق من هذا الموضوع لكي أرمي إلى فضاء أرحب يتجلى فيه عالم الغايم هذا، والأمثلة عليه كثيرة ولكن أردت أن تكون هذه المقالة كمقدمة تعرض هذا المفهوم في إطار الرياضة، فهي الأسهل، وسأتناول في المقالة القادمة عالم الراب والهيب هوب وتمظهر عالم الغايم فيه في الثقافة الأمريكية والسعودية. أما المقالة الأخيرة فستكون حول العلاقات بين الرجل والمرأة والتراضي ودور عالم الغايم فيه.
احس النقطة الأخيرة هي أهم تجليات التداعي المؤوسسي الإحترافي بحيث ان كثيراً ما ينفجر وضع الغايم في الراب لما هو واقعي ذاتي بشكل مأساوي كبير. وللحين ماعرفت السبب، وكأنهم فعلاً يمتلكوا الي احنا نمتلكه في مجتمعاتنا من "مثالية اخلاقية" معينة بحيث ان اي تجاوز لها او تمادي يخلق تداعيات كارثية.
مقالة جميلة صديقي حسين .... لطالما تسائلت كيف للمشاهدين تصديق او دعني اقل تقبل الزيف و المبالغات الحاصلة في عالم المصارعة مثلا .... كيف يشاهدون التمثيل الردئ الواضح بانه تمثيل ....و تصديق كون النتيجة غير محددة مسبقا او المشاهدة رغم معرفة ذلك ..... يعني على قولة الممثل المصري توفيق الدقن ... دا كله
تمثيل في تمثيل ..... الغرابة ليست في عالم المؤسسة او
الغايم هذا ... و القائمين عليه و المتعاملين معه و انما الغرابة من المشاهدين في عالمنا الواقعي و المتعاطين معه بالدعم و
التقبل و التشجيع حتى تصل لمستوى الانتماء المتعصب .... أعلم انني استطردت هنا و لكن و أعلم انني و كأنما حديثي في عكس تيار حديثك نوعا ما و لكنني هذا ما اعتقده الاكثر اهمية .... و انا أعلم أن هذا الطرح اي طرحك رغم الأهمية التي فيه الا انه مقدمة لما هو أكثر ارتباط بالفرد و حياته الشخصية و الوجودية و انا متشوق جدا لقراءة المقالتين التاليتين ..... موقفي طبعا الضحك
..... عندما اسمع التراش توك بالذات في عالم الفنون القتالية ..... و ياللغرابة انا منذ اسبوع فقط كتبت مسرحية تتقاطع إحدى موضوعاتها مع البراغماتية و المثالية .... و هذا موضوع خطير و شائك اخلاقيا.